الجانب الصحيح من التاريخ يعتمد على ما نعنيه بالتاريخ ذاته. اذا كان التاريخ مجرد آلية للحتمية التاريخية تسحق الافكار غير التنويرية وغير التقدمية، فسنكون فقط على \"صواب\" اذا انحنينا امام الماكنة. ولكن من جهة اخرى، اذا كان التاريخ شاهدا على افراد البشرية وهم يتفاعلون مع...
أصبح من المألوف في الجدل السياسي المعاصر الحديث عن الجانب الصحيح والجانب الخاطئ من التاريخ. انها عبارة استُخدمت من جانب اولئك الذين يعتبرون أنفسهم "تنويريين" او "تقدميين" واستعملوا العبارة لإدانة خصومهم السياسيين لكونهم في الجانب الخاطئ من التاريخ، او لأن موقفهم غير سليم تاريخيا.
في البدء لا بد هنا من تعريف المصطلحات. نحن لا نستطيع معالجة السؤال المتعلق بكوننا في الجانب الصحيح من التاريخ ما لم نفهم ماذا نعني بـمفهوم "التاريخ" ذاته.
التاريخ بالنسبة للشخص "التنويري" او "التقدمي"، هو صعود حتمي من الماضي البدائي الى المستقبل التنويري. الماضي هو دائما أقل قيمة وأدنى مرتبة من الحاضر الذي هو بدوره أقل قيمة من المستقبل. هذا الفهم للتاريخ نال التأييد من هيجل (1770-1831) الذي رأى التاريخ كتحرير تدريجي للإنسانية من الجهل. ونفس الشيء، بالنسبة لـ اوكست كومت (1798-1857) الذي اعتبر التاريخ تحولا من مرحلة تتميز بالجهل النسبي الى مرحلة اكثر تنويرا. يبدأ التاريخ في العصر الصوفي المتميز بالصوفية والخرافة، متقدما نحو العصر الميتافيزيقي الذي تستخدم فيه الفلسفة قدرة العقل في محاولة فهم اسطورية الكون، ثم الوصول في نهاية المطاف الى العصر العلمي الذي تحطمت فيه الاسطورة وانتصرت المادية. كارل ماركس (1818-1883) استخدم الفهم التقدمي للتاريخ متحفزا بهيجل واوكست كومت. بالنسبة لماركس يرى ضرورة فهم التاريخ في ضوء الحتمية الاقتصادية والسياسية. التاريخ، لدى ماركس، يبدأ بملكية العبيد ثم التحول عبر الاقطاعية والرأسمالية الى مرحلة الاستقرار الاخير في المرحلة الشيوعية التي تزول فيها سلطة الدولة لينتقل الناس الى شكل من الفردوس السياسي والاقتصادي المتميز بالحرية والعدالة للجميع.
اولئك "التقدميون" الذين لا يحترمون خصومهم السياسيين لكونهم في "الجانب الخاطئ من التاريخ" قبلوا واعتنقوا الحتمية التاريخية لهيجل وكومت وماركس، حيث رأوا التاريخ كآلية تحررية تتحرك الى الامام وتسحق اولئك الرجعيين والمحافظين الذين يقفون عقبة في طريقها. بالنسبة لهؤلاء "التقدميون" العملية هي حتمية ولا يمكن تجنبها ولهذا السبب لا يمكن وقفها.
من المفارقة ان النتيجة لهذه الرؤية للتاريخ هي انها تعمي عيوننا عن التاريخ ذاته، تمنعنا دائما من التعلم من دروسه. اذا كان الماضي متخلفا عن الحاضر، ويتميز بالبربرية والجهل فماذا يستطيع تعليمه للحاضر "المتنور"؟ كيف يستطيع الفلاح الجاهل والخرافي في الزمن الماضي تعليم الشخص المدني المتحضر المقيم في مدن حديثة؟ اذاً من غير المدهش ان نرى "التقدميين" يدعون لإزالة الاعمال العظيمة للحضارة الغربية من المناهج الدراسية في المدارس والكليات. ليس فقط الافكار التي جرى التعبير عنها في تلك الاعمال العظيمة تميزت بالجهل فأضرت بالماضي، وانما الخطورة هي ان بعض الناس قد ينظرون الى ذلك بشيء من الاهتمام والجد وبالتالي هم ذاتهم سيغرقون في الجهل والبربرية. هذا التحريم للكتب هو مشابه لحرقها وهي الممارسة التي ميزت كل ثقافة تمكنت فيها الافكار التقدمية من الوصول الى السلطة.
مع كل حديث عن التسامح، نجد حقيقة وهي ان التقدميين هم الأقل تسامحا من بين جميع الناس. الافكار التنويرية او التقدمية التي قادت الى الثورة الفرنسية قادت ايضا الى اختراع المقصلة اثناء فترة الرعب الكبير الذي اعقب الثورة الفرنسية. الافكار التنويرية والتقدمية لكارل ماركس قادت الى طوفان من الثورات في القرنين التاسع عشر والعشرين، جميعها انحدرت نحو العنف والارهاب فقتلت الملايين من الناس على نطاق واسع لم يشهد له الماضي اللامتنور مثيلا. ومع ذلك، كانت لدى اولئك الذين قادوا تلك الثورات نفس الأفكار الفلسفية مثلما هم التقدميون اليوم. هم اعتقدوا ان الماضي بربري والمستقبل هو الجنة الموعودة، كل ذلك بُني على فكرة التنوير. هم كانوا "على الجانب الصحيح من التاريخ". وكما في الملايين من ضحايا التقدمية مثل الفلاحين الكاثوليك في اقليم فينديه الفرنسي (1) او ضحايا الارثودكسية الروسية (2)، هؤلاء الضحايا ضُحي بهم للضرورة التاريخية لأنهم كانوا "في الجانب الخاطئ من التاريخ". موتهم كان ضرورة وحتمية لأنهم وقفوا حجر عثرة في طريق التقدم.
وهناك رؤية اخرى للتاريخ تراه كصيرورة انسانية وليس فقط آلية. انها ترى التاريخ يبدأ بالعائلة وليس بالعبودية، تؤمن اننا نستطيع ان نتعلّم دروس غنية من الماضي الذي يمكّننا من فهم الحاضر والمستقبل. انها رؤية ترى الماضي يتسم بكل ما هو انساني، بكل ما هو خيّر وسيء وقبيح في جميع ظروف الانسان. انها تعتقد اننا يمكننا ان نتعلم الكثير من كل ما هو جيد وحقيقي وجميل في الماضي، من الفلاسفة العظام والأعمال العظيمة للفن والادب، ومن اولئك الذين اتسمت حياتهم بالحب المرتبط صميميا بالتضحية الذاتية.
انها ايضا تعتقد باننا لدينا الكثير لنتعلمه من الشر والقبح في الماضي، ومن المستبدين الذين رفضوا الاستماع لدعوة الحب مختارين بدلا من ذلك التضحية بالآخرين، ومن الافكار السيئة التي كانت لها نتائج قبيحة مثل الافكار التي ذكرناها تواً لهيجل و كومت وماركس. هذه الرؤية لا تؤمن ان الماضي بربري يجب التخلص منه باحتقار، وانما كانسان قديم، ممتلئ بالتجربة الانسانية، رؤية تمكّننا ان نتعلم من اخطاء الماضي لكي لا يُحكم علينا بتكرارها في الحاضر او المستقبل، وتبين لنا حياة الابطال الذين ضحوا بحياتهم لأجل الاصدقاء او الاعداء، فيحفزوننا لعمل الشيء ذاته.
لذلك، يمكن القول ان الجانب الصحيح من التاريخ يعتمد على ما نعنيه بالتاريخ ذاته. اذا كان التاريخ مجرد آلية للحتمية التاريخية تسحق الافكار غير التنويرية وغير التقدمية، فسنكون فقط على "صواب" اذا انحنينا امام الماكنة. ولكن من جهة اخرى، اذا كان التاريخ شاهدا على افراد البشرية وهم يتفاعلون مع بعضهم بمرور الزمن، يعلّموننا من خلال نتائج افعالهم لنتجنب الشر وآثاره التدميرية، ويحفزوننا لنعيش حياة التضحية بالذات التي تجعل العالم افضل لجيراننا وحتى لأعدائنا عندئذ سنكون في الجانب الصحيح من التاريخ. نحن سنكون فقط في الجانب الصحيح من التاريخ لو اتّبعنا مثال القديسين والابطال.
ولكي نكون صريحين اكثر، اولئك الذين في الجانب الصحيح من التاريخ هم الذين يعيشون حياة الخير والفضيلة في خدمة الحقيقة الموضوعية ولذلك يجعلون العالم أحسن حالا وأجمل مكانا. اما اولئك الذين يتعاملون مع الماضي بازدراء رافضين تعلّم دروسه عابدين الماكنة المتخيلة للتقدم سيكونون ادوات للاستبداد اليوم مثلما كانوا ادوات للاستبداد في الماضي. هم ليسوا فقط في الجانب الخاطئ للتاريخ وانما ايضا في الجانب الخاطئ للانسانية.
اضف تعليق