كل نقاش حول تاريخ النوم يتمحور حول نوع اللحظات الفاصلة في الصناعة، وظهور الكهرباء التي دمرت طبيعة النوم للجميع، والنتيجة الطبيعية لذلك هي أن أي فترة ما قبل الثورة الصناعية كانت تُصور على أنها العصر الذهبي للنوم. النوم مرتبط بالصحة الجسدية والنفسية، وكان موضوعًا يثير قلق الناس..
مثل العديد من الأشخاص، اعتقد المؤرخ الأمريكي آرثر روجر إكيرتش أن قضاء ثماني ساعات من النوم لا تتغير أبدًا مع مرور الزمان والمكان.
ولكن أثناء بحثه عن الحياة الليلية في أوروبا وأمريكا ما قبل الثورة الصناعية، اكتشف إكيرش أول دليل على أن العديد من البشر اعتادوا النوم على فترتين - فترة أولى وفترة ثانية من النوم مع استراحة لبضع ساعات بين الفترتين لممارسة الجنس، أو أداء الصلاة، أو تناول الطعام، أو تبادل أطراف الحديث.
وقال إكيرتش، وهو أستاذ جامعي في قسم التاريخ بجامعة "فرجينيا تك": "كان هذا نمطًا من النوم غير معروف للعالم الحديث".
وكشف كتاب إكيرتش اللاحق، بعنوان "عند إغلاق اليوم: الليل في الأوقات الماضية"، عن أكثر من 500 إشارة إلى ما عُرف وقتها بالنوم ثنائي الطور.
ووجد إكيرتش أكثر من 2000 مرجع بعدة لغات تعود بالزمن إلى اليونان القديمة.
ويشير بحث إكيرتش إلى أن ممارسة النوم طوال الليل لم تنته حقًا إلا قبل بضع مئات من السنين، وقد تطورت فقط بفضل انتشار الإضاءة الكهربائية والثورة الصناعية ومعتقدها الرأسمالي بأن النوم كان مضيعًة للوقت الذي يمكن أن يقضيه المرء بشكل أفضل في العمل.
ولا يكشف تاريخ النوم عن تفاصيل رائعة عن الحياة اليومية في الماضي فحسب، بل يساعد بحث إكيرتش وغيره من المؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا علماء النوم على اكتساب منظور جديد لما يشكل نومًا جيدًا ليلاً، كما يقدم طرقًا جديدة للتعامل مع مشاكل النوم والتفكير فيها.
وتتواجد قيمة في معرفة هذا النمط السابق للنوم في العالم الغربي، إذ أوضح إكيرتش أن "هناك العديد من الأشخاص الذين يعانون اليوم من أرق منتصف الليل، وهو اضطراب النوم الأساسي في الولايات المتحدة وغالبية البلدان الصناعية".
أسطورة النوم لمدة 8 ساعات؟
وعثر إكيرتش على أول إشارة إلى مفهوم النوم ثنائي الطور في مستند قانوني يعود لعام 1697 بمحكمة جنايات متنقلة، مدفون في مكتب تسجيلات بلندن.
وفي المستند، ذكرت فتاة تُدعى جين روث، وتبلغ من العمر 9 سنوات، خلال الإدلاء بشهادتها أن والدتها استيقظت بعد "نومها الأول" للخروج. وعُثر على الأم متوفية في وقت لاحق.
وأشار إكيرتش إلى أنه لم يسمع بعبارة "النوم الأول" قط، والذي عبّرت عنه روث خلال شهادتها بطريقة بدت طبيعية للغاية.
وأضاف: "بعدها بدأت في العثور على مراجع لاحقة في هذه الإفادات القانونية، وكذلك من مصادر أخرى".
ووجد إكيرتش لاحقًا إشارات متعددة إلى النوم "الأول" و "الثاني" في اليوميات، والنصوص الطبية، والأعمال الأدبية، وكتب الصلاة، وعلى سبيل المثال، نصح طبيب من القرن السادس عشر في فرنسا، في كتيبه، الأزواج بأن أفضل وقت لحمل المرأة لا يكون في نهاية يوم طويل بل "بعد النوم الأول" عندما "يتمتع الزوجان بقدر أكبر من الطاقة" و"يقومان بالمعاشرة بشكل أفضل".
كما وجد إكيرتش أنه بحلول أوائل القرن التاسع عشر، بدأ النوم الأول في التوسع على حساب النوم الثاني، وفترة اليقظة الفاصلة بينهما. وبحلول نهاية القرن، كان النوم الثاني أكثر بقليل من تقلّب المرء في سريره لمدة 10 دقائق إضافية من الغفوة.
ومن جانبه، يلقي بن ريس، وهو أستاذ ورئيس قسم اللغة الإنجليزية في جامعة إيموري في أتلانتا، باللوم على الثورة الصناعية وموقف "النوم للجبناء" الذي ولّدته.
ولفت ريس إلى أن الجواب يكمن في "التغييرات التي طرأت على التنظيم الاقتصادي، عندما أصبح تنظيم العمل أكثر فاعلية، وحضور أعداد كبيرة من الأشخاص بالمصنع في الوقت ذاته، والقيام بأكبر قدر ممكن من العمل بأسلوب مركّز قدر الإمكان".
وأضاف ريس أن جدول نومنا تقلص، وأصبح موحدًا نتيجة لذلك.
ليس هناك عصر ذهبي للنوم
ومع ذلك، لم تكن الحياة ما قبل الثورة الصناعية هادئة عندما كان أسلافنا يقضون يومهم بالراحة تزامنًا مع دورة الليل والنهار، وأنماط الطقس والمواسم، غير منزعجين من الأرق أو مشاكل النوم الأخرى، وفقًا لما قالته ساشا هاندلي، أستاذة التاريخ في جامعة مانشستر بالمملكة المتحدة.
وتدرس هاندلي كيفية نجاح العائلات في مستعمرات الإمبراطورية البريطانية بين عامي 1500 و1750 في تحسين نومها.
وقالت: "يبدو أن كل نقاش حول تاريخ النوم يتمحور حول نوع اللحظات الفاصلة في الصناعة، وظهور الكهرباء التي دمرت طبيعة النوم للجميع، والنتيجة الطبيعية لذلك هي أن أي فترة ما قبل الثورة الصناعية كانت تُصور على أنها العصر الذهبي للنوم".
ويقترح بحث هاندلي أن النوم، كما هو الحال اليوم، مرتبط بالصحة الجسدية والنفسية، وكان موضوعًا يثير قلق الناس، ويستحوذ على اهتمامهم.
وأشارت إلى أن كتيبات الأطباء التي تعود إلى ذلك الوقت مليئة بالنصائح حول عدد الساعات المطلوبة والوضعيات المناسبة للنوم.
وأضافت أن الأدلة المرجعية تسرد أيضًا مئات الوصفات الخاصة بالنوم للمساعدة على نوم هانئ ليلاً. وتشمل تلك الوصفات معتقدات غريبة مثل تقطيع طائر الحمام إلى نصفين وإلصاق كل نصف بكل جانب من رأسك، والأكثر شيوعًا - الاستحمام في ماء منقوع بالبابونج واستخدام اللافندر.
كما قام الناس بإحراق أنواعًا معينة من الخشب في غرف نومهم، والتي كان يُعتقد أنها تساعد على النوم.
وأضافت هاندلي: "بالنسبة إلى الفترة التي نعيش فيها، يرتبط النوم ارتباطًا وثيقًا بالهضم، والعاطفة، والمعدة، وبالتالي بنظامنا الغذائي".
ونصح الأطباء بالنوم أولاً على الجانب الأيمن قبل النوم على الجانب الأيسر خلال النصف الثاني من الليل.
ويُعتقد أن الاستلقاء على جانبنا الأيمن أثناء النوم الأول يسمح للطعام بالوصول إلى فم المعدة، حيث يتم هضمه، وبالانتقال إلى الجانب الأيسر، وهو الجانب الأكثر برودة، تنتشر الحرارة بالتساوي في جميع أنحاء الجسم.
ويُعتقد أن هذه العادة يمكن أن تكون أصل العبارة التي تتحدث عن النهوض من الفراش على الجانب الخطأ.
ولا يعتقد جميع العلماء أن النوم على فترتين، رغم أنه ربما كان شائعًا في بعض المجتمعات، كان يومًا ما عادة عالمية.
وقالت بريجيت ستيجر، المحاضرة البارزة في الدراسات اليابانية بجامعة كامبريدج في المملكة المتحدة، إن اليابان بعيدة كل البعد عن ذلك المفهوم، ولم تكشف عن أي إشارات إلى النوم المقسم خلال أبحاثها عن عادات النوم في اليابان.
وأشارت ستيجر إلى أنه "لا يُوجد ما يسمى بالنوم الطبيعي، إذ لطالما كان النوم مرتبط بالثقافة، والمجتمع، والأيديولوجية".
وقالت عبر البريد الإلكتروني: "لا يُوجد فرق واضح بين عادات النوم ما قبل العصر الحديث (أو ما قبل الثورة الصناعية) وعادات النوم في العصر الحديث".
وأضافت: "وقد تغيرت عادات النوم باستمرار طوال فترات ما قبل العصر الصناعي وفي جميع أنحاء العالم. وبالطبع، كان هناك دائمًا تنوع اجتماعي، وكانت عادات النوم مختلفة للغاية في البلاط الملكي مقارنة بعادات النوم لدى الفلاحين، على سبيل المثال".
إعادة التفكير في الأرق
ومن جانبه، أشار راسل فوستر، أستاذ علم الأعصاب اليومي في جامعة أكسفورد، إلى أن النتائج التي توصل إليها إكيرش بشأن النوم ثنائي الطور، رغم أنها لا تخلو من الجدل، فقد أثرت على عمله كعالم في النوم.
وقال إن التجارب في مختبرات النوم أظهرت أنه عندما يُمنح البشر فرصة النوم لفترة أطول، يمكن أن يصبح نومهم ثنائي الطور أو حتى متعدّد الأطوار، مما يكرر ما وجده إكيرش في السجلات التاريخية.
ومع ذلك، شك فوستر، وهو أيضًا مدير معهد السير جولز ثورن للنوم وعلم الأعصاب المركب في أكسفورد، بأن هذا نمط نوم سيحدث للجميع.
وأضاف أنه لا ينبغي لأحد أن يفرض على نفسه نظام نوم مجزأ، خاصًة إذا أدى ذلك إلى تقليل إجمالي فترة النوم.
ومن الواضح بالنسبة لفوستر، أن النوم المتقطع كان يُنظر إليه على أنه لا يُعد مشكلة في الماضي، وأن التوقعات الحديثة حول ما يشكل نومًا جيدًا ليلاً، أو النوم طوال الليل لمدة ثماني ساعات، لم تكن مفيدة دائمًا.
ولفت إلى أن الاستيقاظ في الليل لا يعني بالضرورة نهاية النوم، مستشهدًا باستيقاظ المزيد من الأشخاص ليلًا أثناء عمليات الإغلاق وسط جائحة "كوفيد-19".
وأوضح أن الناس يشعرون بالقلق الشديد بشأن الاستيقاظ في منتصف الليل، لأنهم لم يعتادوا على ذلك.
وعلى الأرجح، ما حدث هو أن مقدار الوقت المتاح لدى الناس للنوم قد اتسع ولم يتم تقييده بسبب رنين المنبه.
واقترح بحث فوستر أنه إذا استيقظنا في الليل، فمن المرجح أن نعود للنوم، إذا لم نقاطع ذلك بتصفح وسائل التواصل الاجتماعي أو أي سلوك آخر يجعلنا أكثر يقظة أو ينشط الاستجابة للتوتر.
ومثل غالبية خبراء النوم، أوصى فوستر بالقيام من الفراش إذا شعرت بالإحباط بسبب عدم قدرتك على العودة للنوم والانخراط في نشاط مريح مع إبقاء الأضواء خافتة في الغرفة.
اضف تعليق