يقف الأردنيون الآن مرعوبين من المستقبل ومن واقعٍ مفروضٍ عليهم يزداد وضوحاً يوماً بعد يوم. فموقف الحكم في الأردن واضحاً في عدم رغبته في الخوض في ملفات الفساد الكبير، وفي عدم الرغبة في استرجاع المال العام المنهوب كوسيلة لتعزيز موارد الخزينة عوضاً عن اللجوء إلى جيب المواطن. كما أن الحكم غير راغب أيضاً في الضرب بيد من حديد على رموز الفساد القديم وتطبيق القانون عليهم وإعادة الحُرْمـَة إلى المال العام.
وفي المقابل، فإن الحكومة على إستعداد لإنتهاج سياسات جباية تؤدي إلى كسر ظهر المواطن، كما أنها على إستعداد لتطبيق قانون تحصيل الأموال الأميرية على أي مواطن مدين للدولة حتى بمئات قليلة وأحياناً عشرات قليلة من الدنانير والحجز على امواله ومنعه من السفر والتهديد بزجه في السجن، وتـُغفـِل في الوقت نفسه أولئك الفاسدين اللذين سرقوا مئات الملايين من الأموال العامة.
ما هي الأسباب الحقيقية وراء هذه المفارقات في تطبيق القوانين والتغاضي عن سارقي الملايين والإصرار، في المقابل، على ملاحقة المواطنين المدينين للدولة بالعشرات أو المئات أو الآلاف القليلة من الدنانير التي لم يسرقوها بل تأخروا في سدادها كمستحقات للدولة ربما بسبب عدم القدرة على ذلك بعد ان قامت الحكومة بكسر ظهر المواطن بسياسة الجباية المتوحشة التي تمارسها.
تعالج الحكومات الأردنية فشلها المزمن والواضح والذي أدى إلى تفاقم المديونية وتراجع الانتاجية من خلال الانقضاض على المواطن وعلى القطاعات الناجحة مثل قطاع الاتصالات في محاولة لجني دخل سريع دون العمل على بذل أي جهد حقيقي لإصلاح نفسها وإصلاح الوضع الاقتصادي برمته وقطع دابر الفساد. واصبح الهدف الوحيد للحكومات الأردنية المتعاقبة وقراراتها الاقتصادية تتلخص في "الجباية"، وكأن هذا الحل سوف يدوم في ما لو استمرت الحكومات المتعاقبة وتمادت في تطبيقه إلى الحد الذي سوف يؤدي إلى اصابة مصادر التمويل والجباية بالعقم أو الكساح.
ان مسؤولية إدارة الدولة شيء والنجاح في ذلك المسعى شيء أخر. ولا بد من ممارسة مفهوم المسائلة والمحاسبة وتطبيقه على كل مسؤول دون السماح لأحد بالتنصل من تلك المسؤولية من خلال الاختباء خلف حصانة رأس الدولة عن طريق الإدعاء بأن إختيار وتعيين المسؤولين يتم من قبل رأس الدولة وليس من خلال العملية الانتخابية والبرلمانية، أو الادعاء بأن السياسات قيد المحاسبة أو الرفض أو التساؤل تحظى بقبول وتأييد رأس الدولة، إلى غير ذلك من الأساليب التي تؤدي إلى تعزيز التسيب والتفرد في ممارسة السلطة وعملية إتخاذ القرارات، مما يتطلب إعادة نظر جذرية في كيفية وحتمية تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات حسب ماهو وارد في دستور عام 1952.
إن ما جرى مؤخراً من عَبَثٍ في نصوص وروح دستور عام 1952 وأدى، عملياً، إلى دمج السلطات الثلاثة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) وتحويلها إلى أداة في يد الحكم عوضاً عن بقائها الضمانة والحامي للمواطن والوطن، قد سمح للحكم بالتغول على المواطن دون خوف من رقابة تشريعية أو محاسبة قضائية وأدى إلى مايشعر به الأردنيون الآن في بلدهم ووطنهم من معانة وضيق وغضب.
وفي المقابل، فإن حصر السلطات في شخص واحد أدى إلى حصر المسؤولية في ذلك الشخص أيضاً مما أدى، في حالات عديدة، إلى قيام المواطنين الأردنيين باختراق كل الخطوط الحمر في نقدهم لتدهور الأوضاع وهذا أدى في حالات كثيرة إلى فقدان أعلى المناصب لحصانتها الأدبية والقانونية ولإحترامها مما دفع العديدين إلى التفكير ملياً بماهية مايجري وما الذي يتوجب فعله لوضع حد لهذا الانهيار في ظل تآكل منظومة القيم والاحترام السائدة في المجتمع.
الحل لا يكمن في مزيد من الكبت والقهر وتكميم الأفواه وتحويل الرأي الأخر إلى عدو يتوجب على الحكومة وأجهزتها مطاردته ومعاقبته، بل في خلق قنوات التعبير الديموقراطي التي تسمح بتعدد الآراء والأفكار، أو في تكفير أو تخوين أو تجريم الرأي الآخر كون تلك هي الطريق الأمثل لتفشي الفكر الارهابي ومن ثم النشاط الارهابي. كما ان حرمان المواطن من الضمانات التي يوفرها القضاء العادل المستقل، ومن قنـوات التعبير الحر السلمي الديمـوقراطي، سوف تدفع بالعديدين إلى اختيار نهج العنف والتزمت للتعبير عن آرائهم أو للتنفيس عن غضبهم.
"لو كان الفقر رجلاً لقتلته" مقولة مبكرة للامام علي بن أبي طالب تقترب في حقيقتها من النبوءة. فهذه الجملة البسيطة تغوص في أعماق الطبيعة الأنسانية وتسبر غورها. وإذا كان هذا هو الحال بالنسبة للفقر، فماذا سيكون عليه الحال بالنسبة للسياسات التي تؤدي إلى الإفقار؟
إن الفوضى والإرتجالية في فرض الضرائب وزيادة الأسعار على المواطنين الأردنيين لن تؤدي إلا إلى مزيد من الإفقار للمواطنين وإلى إرباك واضح في الدورة الإقتصادية المحلية، وإستمرارها سوف يكون بالتأكيد كارثياً نظراً لآثارها المدمرة كونها ستؤدي إلى ابراز أبشع مافي النفس البشرية من غضب وعدوانية.
إن السعي إلى وضع المواطن الأردني أمام خيار واحد من اثنين: إما الفقر ومزيد من الفقر، أو الفوضى وغياب الأمن والأمان، أمر يفتقر إلى الحكمة بل والعدالة لأنه يقترب في جوهره وأهدافه من حدود الإبتزاز، الذي لن يخدم أحداً في نهاية المطاف. فإبتزاز شخص أو عدد قليل من الأشخاص قد يكون أمراً ممكناً، أما إبتزاز شعب بأكمله فهذا أمر مستحيل وعواقبه قد تكون وخيمة على الجميع.
يُدار الاقتصاد الأردني الأن من خلال قرارات وليس سياسات. وهذه القرارات مبنية على ردود الفعل وليس الفعل. فالقدرة على رسم سياسات إقتصادية سوف تقف عاجزة أمام ثلاثة عقبات هامة:
الأولى: تفشي الفساد الكبير الذي إمتد إلى كافة نواحي الحياة في الأردن بعد أن تم بيع الأصول الإقتصادية للبلد والتي تم بناؤها على مر السنين بعرق واموال الشعب الأردني، وتم الاستيلاء على معظم عوائد بيعها لصالح جهات متنفذة.
الثانية: الإنفاق العسكري والأمني الذي تجاوز قدرة الأردن على التمويل وأدى إلى إقتطاع مخصصات التنمية وتحويلها إلى الإنفاق العسكري والأمني، بالرغم من المساعدات العسكرية التي ترد للأردن من مصار مختلفة.
الثالثة: سياسة الباب المفتوح التي سمحت بنزوح مئات الألوف من الأشقاء العرب من الدول المجاورة إلى الأردن، مما وضع ضغطاً كبيراً على موارد الأردن على الرغم من مئات الملايين الدولارات من المساعدات التي رافقت وأعقبت ذلك النزوح الكبير والتي خلت كيفية إنفاقها من الشفافية، حيث لم يتم نشر أرقام المساعدات التي إستـُلِمَتْ وكيفية إنفاقها.
إن تشخيص الواقع بشكل صحيح هو نصف المعادلة أما النصف الآخر فيتلخص في توفر محاولات جادة للتقدم بحلول لما هو قائم فعلاً من مشاكل. الحلول لا تأتي بلمسة سحرية أو بالتمني بل تنبع في معظم الأحيان، من طبيعة المشاكل نفسها ومن الظروف التي تحيط بها. إن هذا المسار يجب أن لا يقود البعض إلى التفكير بأن البحث عن حلول يهدف إلى نبش القبور أو الحديث في أمور يُـفـَضـﱢل البعض أن تبقى طي الكتمان، أو أنها محاولة للغوص فيما يعتقد البعض أنه من المحرمات. الحقيقة تبقى هي الحقيقة بغض النظر عن ما نشعر به تجاهها أو العواطف التي يبديها البعض تجاه تقاطع تلك المشاكل مع حلولها ورفض ذلك النهج من منطلق الولاء الأعمى للنظام حتى ولو كان ذلك الولاء الأعمى على حساب المصلحة العامة.
لا يوجد حل سحري واحد للمشاكل التي تكتنف الأردن. فجزء من هذه المشاكل يتعلق بالوطن الأردني نفسه وما يجري في داخله من تطورات وتفاعلات، وما يكتنف ذلك من سياسات بعضها غامض وبعضها الأخر معروف. ونظراً لغياب آليات ومؤسسات الرقابة الفاعلة، فإن الأردنيين في غالبيتهم غير مسؤولين عن عواقب تلك القرارات والسياسات وما تمخض أو قد يتمخض عنها سواء أكان ذلك سياسياً أم اقتصادياً أم مالياً أم أمنياً. وتبقى مسؤولية الحكم في اتخاذ القرارات الصائبة هي الأساس دون أن يكون للحكم الحق في إدعاء أي فضل في ذلك لأن القرار الصائب هو في صميم مسؤوليته والقرار الخاطئ يتطلب المحاسبة.
أما الجزء الأخر من المشاكل فيتعلق بتبعات الدور المطلوب من الوطن الأردني وهو الشق الخاضع للضغوط الخارجية. ومن هنا فان المسؤولية الأولى للحكم تكمن في تعزيز مَنَعَةِ الأردن وعدم السماح بوقوعه فريسة للضغوط الخارجية نتيجة ضعفه وحاجته إلى دعم ومساندة الأخرين الأمر الذي يجيء في العادة مشروطا بطلبات قد تتعارض ومصالح الوطن الأردني. ومن هنا يأتي الترابط بين السياسات الداخلية وعلاقتها بالضغوط الخارجية. فإذا ما إستفحلت الضغوط الخارجية نتيجة خلل في السياسات الداخلية، تصبح مسؤولية الحكم مزدوجة في إيصال الأردن إلى ما وصل إليه من ضعف وإختلالات تؤدي في العادة إلى تضارب بين الحاجة للدعم والمساعدة، وبين مصالح الوطن.
إن شواخص الحل لما يجابهه الأردن الآن تشير إلى ضرورة العودة إلى الجذور التي سمحت لتلك المشاكل بالبروز والنمو وإلى ضرورة العمل على التخلص منها تمهيداً لعودة الأمور إلى نصابها السليم. وتتلخص تلك الشواخص بما يلى:-
1. العمل على إسترجاع المال العام المنهوب كخطوة سريعة نحو معالجة العجز في الدخل والسيولة والاختلالات المالية.
2. تطبيق القانون على كل من سرق المال العام سواء مباشرة أو بطريقة غير مباشرة ووضع حزمة من القوانين الصارمة التي تُحَصـﱢنْ المال العام وتجعل من التعدي عليه جريمة خاضعة للعقاب الفوري والعزل السياسي وغير قابلة للعفو أو التخفيف تحت أي ظرف.
3. إعادة الاعتبار للقضاء الأردني وتفعيله وفصله تماماً على السلطتين التنفيذية والتشريعية ووضعه في مكانه الدستوري السليم كملجأ لكل من تتعدى عليه السلطات الأخرى.
4. كف يد الاجهزة الأمنية ومنعها من التدخل في الحياة السياسية وفي التعيينات والانتخابات وإعتبار دورها مقتصراً على حماية الوطن من أعداءه في الداخل والخارج دون المساس بالحريات والضمانات الدستورية للمواطن الأردني.
5. إعادة العمل بدستور عام 1952 وإلغاء ما طرأ عليه من تعديلات.
6. تحصين قوت المواطن من عبث الحكومات وإستثنائه من الزيادات العشوائية وربط الزيادات على المواد والخدمات الأساسية بالحد الأدنى للأجور.
7. اعتبار الماء والكهرباء من حقوق المواطن الأساسية وعدم السماح للشركات الاحتكارية بالتفرد بالأسعار وزيادتها كما ترغب وتريد وعدم إخضاع أموالها لقانون تحصيل الأموال الأميرية.
8. إعادة تفعيل المادة 111 من الفصل السابع من الدستور الأردني وعدم السماح بفرض أي ضرائب أو رسوم على الشعب دون قانون وعلى أن لا تتجاوز مقدرة المكلفين على الأداء وذلك التزاماً بأحكام الدستور.
9. التأكيد على مبدأ الشفافية وتلازم السلطة بالمسؤولية وإعتبار أي مسؤول في الدولة خاضعاً للمسائلة والمحاسبة إذا ما أخطأ في ممارسة السلطات الموكلة إليه.
اضف تعليق