تتفق الآراء المعنية بالفساد على أنه بات يشكل ظاهرة عالمية، تقود العالم أجمع نحو مشكلات مستعصية، تبدأ بفقدان النظام وعدم احترام القانون ونشر أساليب الابتزاز، وإجبار الناس على دفع الرشى وانتعاش حالات الاختلاس وما شابه، لتنتهي الى نشر الفقر، فأينما تجد الفقر وتضاؤل قوة القانون سوف تجد حضورا للفساد المنظّم الذي تمارسه عصابات قد يشترك فيها أو يقودها مسؤولون في مناصب حكومية رفيعة.
من هنا لم يكن ثمة بد من إطلاق حملات جادة وقوية لمكافحة الفساد بأنواعه، لاسيما في بلدن وشعوب تعاني من الجهل والتخلف ويعيث فيها الخوف والتردد فسادا، فتنتعش هذه الظاهرة لتقود الدول المتأخرة الى درجات أخرى من التخلف، وهذا ما تسعى منظمات دولية رسمية الى مكافحته والتقليل من أضراره.
حول انتشار الفساد وتعزيز النزاهة في العالم العربي وعموم العالم، اعتمدت الجمعية العامة، في 31 أكتوبر 2003، اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد وطلبت إلى الأمين العام أن يكلف مكتب الأمم المتحدة أن يتصدى لهذه المهمة، وقد اختارت الجمعية العامة يوم 9 ديسمبر سنوياً كيوم دولي لمكافحة الفساد، من أجل إذكاء الوعي عن مشكلة الفساد وعن دور الاتفاقية في مكافحته ومنعه. ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في كانون الأول/ديسمبر 2005.
وقد سعى مسؤولون في مراكز مهمة للمنظمات العالمية الى إطلاق حملات ومهرجانات وإقامة ندوات والمباشرة بحملات إعلامية لمكافحة الفساد عالما، حيث يؤكد الأمين العام للأمم المتحدة في تصريحاته قائلا، لنعمل ونحن نحتفل باليوم الدولي لمكافحة الفساد على تجديد التزامنا بالقضاء على مظاهر الاحتيال والغش التي تهدد تنفيذ خطة عام 2030 كما تهدد ما نبذله من جهود في سبيل تحقيق السلام والرخاء للجميع فوق كوكب يتمتع بالصحة الكاملة.
في موازاة الجهود الحثيثة للمنظمات الدولية الراسخة، لابد أن تكون هناك جهود حكومية محايثة لها ومرافقة لجهودها، إذ لابد من إطلاق حملة إقليمية أو محلية في العراق وسواه من الدول المجاورة لمكافحة الفساد بأنواعه، لاسيما فساد الأجهزة الحكومية بأنواعها والقضاء على الرشى والاختلاس وغسيل الأموال وتعزيز النزاهة وتقوية إجراءاتها ودعمها بالخبرات وكافة الوسائل التي تجعلها قادرة على أداء واجباتها على أفضل وجه.
تريلون دولار قيمة الرشى
لكي يتكون لدينا تصوّر عن حجم الفساد العالمي، ينبغي أن نطلع على أقيام الرشى والسرقات التي تحدث عبر العالم، وإذا كانت الدول القوية قادرة على كبح جماح الفساد وتخفيف وتيرة سرعته وحجمه بقوة القانون وبالخبرات التي تمتلكها في هذا المضمار، فإن الدول الضعيفة كالعراق ومعظم الدول العرابية لاسيما تلك التي تقودها أنظمة فردية، فإن الفساد فيها ذو نسبة عالية، وهو أمر ملحوظ تماما، حيث يتم إهدار مليارات بسبب الرشى والسرقة وأنواع الفساد الأخرى التي يمارسها المتنفذون وبعض المسؤولين وأولادهم.
في تقرير سنوي للأمم المتحدة يتعلق بحجم الفساد في كل عام، تصل قيمة الرشى إلى تريليون دولار، فيما تصل قيمة المبالغ المسروقة بطريق الفساد إلى ما يزيد عن ترليونين ونصف دولار وهذا مبلغ يساوي خمسة في المائة من الناتج المحلي العالمي. وفي البلدان النامية بحسب ما يشير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حيث تقدر قيمة الفاقد بسبب الفساد بـ 10 % من إجمالي مبالغ المساعدة الإنمائية المقدمة، وهذه النسبة كبيرة على المستوى العالمي ويمكن من خلالها للمعنيين والخبراء أن يقدروا حجم المهدور من الأموال بوساطة أساليب الفساد.
باعتبار العراق دولة في طور النمو، وامتلاكها لخزين نفطي هائل، وتصديرها ملايين البراميل النفطية مقابل مبالغ طائلة، مع ضعف الرقابة والنزاهة والقانون، فإن حالات الاختلاس عادة ما تكون فيه كبيرة، كما أثبتت وقائع الفساد عبر السنوات الماضية، هذا ما يحدث في مجال السرقة، أما مجالات التزوير والفساد المالي فهي الأخرى تنبئ عن صفقات مدمّرة للاقتصاد، خاصة أن تصريحات عديدة لنواب كثر يؤكدون أن هن هنالك فواتير مزورة يتم بوساطتها سحب مبالغ ضخمة من احتياطي العملة الصعبة في مزادات البنك المركزي بحسب تصريحات نواب في البرلمان، ما يستدعي التحرك السريع والتدقيق في مدى صحة تصريحات رسمية كهذه.
يُضاف الى ذلك مطلوب أن تنهض مفوضية النزاهة بأعبائها ووظائفها على النحو الأمثل، ومن المستحسن أن يتم دعمها قانونيا محليا ودوليا، كذا بالنسبة للدعم المعنوي والمادي والخبروي والحماية الجسدية أيضا، كل هذه الخطوات والإجراءات يمكنها أن تصنع نزاهة قوية متخصصة قادرة على وضع اليد على بؤر الفساد أيا كان نوعها أو حجمها أو الذين يقفون وراءها، حتى لو كانوا من أصحاب النفوذ والقوة وما شابه.
ولابد من تشبيك العلاقات بين منظمات النزاهة في العراق ومنظومة النزاهة العالمية، والمنظمات الداعمة لها وتلك المتخصصة في مكافحة الفساد، إذ من المفيد أن يتعلم موظفو النزاهة بالعراق أساليب العمل الجيد في مضمار درء خطر الاختلاس وغسيل الأموال وأنواع الابتزاز، والصفقات التي يشوبها الفساد، لاسيما أنها تسبب في هدر مليارات الدولارات بسبب حالات الفساد التي تنتشر في مرافق الدولة والحكومة كذلك الحال في دول عربية أخرى تعاني من المشكلات نفسها.
الفساد كظاهرة معقدة
بطبيعة الحال كان لابد من تجميع الجهود على المستوى العالمي للحد من ظواهر الفساد، والمشكلة أنه لا يستهدف فئة دون غيرها، فالجميع معرضون له.. الغني والفقير والقوي والضعيف، ولكن أصحاب الخبرة لديهم قدرات كبيرة وزاخرة بالتنوع لمواجهة عصابات الفساد المتنوعين بدورهم، خاصة إذا عرفنا أن هذه الظاهرة على درجة كبيرة من التعقيد، تستدعي جهودا متخصصة هائلة.
من هنا مطلوب تهيئة الجهود في حملات إقليمية وعالمية متداخلة ومتآزرة في وقت واحد، لسبب واضح أن الفساد بات جريمة خطيرة وظاهرة اجتماعية وسياسية واقتصادية معقدة تؤثر على جميع البلدان، ولهذا السبب ركزت حملة عام 2016 المشتركة بين برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومكتب الأمم المتحدة المعني بالفساد بوصفه واحد من أكبر العقبات أمام تحقيق أهداف التنمية المستدامة كما تنبئ بذلك الخطط الموضوعة، ركزت على الجوانب التي تتعلق بالحد من هذه الظاهرة عبر خطط وضعها خبراء ومتخصصون في هذا المجال.
علما أن اليوم العالمي لمكافحة الفساد الذي يحتفل به العالم في التاسع من كانون الأول/ديسمبر، يكتسب بُعداً هاماً كما يأتي اليوم العالمي لمكافحة الفساد في فترة تتميّز بتعاظم التحدّيات وتكاثرها في ظل استمرار العمل الدؤوب الذي تبذله بلدان المنطقة والعالم من أجل معالجة تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، ودفع عجلة التنمية قُدُمًا، وعليه، فان هذا اليوم يشكّل فرصة مميّزة للمهتمّين بمكافحة الفساد، تلك الظاهرة المعقّدة في تجلّياتها، الواضحة في تأثيراتها، من اجل زيادة الوعي، وشحذ الهمم، وتوحيد الكلمة ضد الفساد الذي يهدر الطاقات المالية والبشرية ويشكّل عائقا بالغ الخطورة أمام جهود التنمية حول العالم.
كذلك يتّفق الجميع على المستوى العالمي والإقليمي حول أهمية تعزيز جهود مكافحة الفساد، لأنّه يتعارض مع الأسس والقيم التي تقوم عليها الثقافة الاجتماعية والدينية، ويلتهم ثروات الشعوب ويعيق الاستثمار الداخلي والأجنبي، ويخفّض من نوعية الخدمات الأساسية التي يتلقّاها المواطنون، ويعطّل حكم القانون، ويهدد استقرار المجتمعات وأمنها، لذلك تبرز الحاجة الى توحيد وتنسيق الجهود في مجال تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد، لاسيما أننا كعراقيين نعاني من هذه المشكلة منذ أكثر من عقد من السنوات، مرّت مع تزايد نسبة التجاوزات على المال العام، ما يستدعي حملة مشابهة ومترافقة مع حملة الأمم المتحدة، تستفيد منها لأجل القضاء أو الحد من هذه الظاهرة التي تبدو مستعصية فيما لو تلكّأ المعنيون في محاصرتها ووأدها وهي في المهد.
اضف تعليق