لقد اضحى من المستقر عليه في الفقه القانوني ان الدولة القانونية تستند ابتداءً على مبدأ الفصل بين السلطات في تقسيم الوظائف (التشريعية والتنفيذية والقضائية) بحيث تقسم هذه الوظائف على ثلاث هيئات تستقل كل واحدة منها عن الاخريات استقلالاً عضوياً ووظيفياً، ذلك منعاً لتركيز السلطة بيد شخص واحد او جهة واحدة فيجب أن يكون هناك فصل في الجهات وفصل في المهمات، وما ذلك الا حماية لحقوق الافراد وحرياتهم.
ومن النتائج المنطقية للمبدأ المذكور أن تمارس السلطة القضائية مهامها بتطبيق القانون على الدعاوى والمنازعات التي ترفع اليها والتي تثور بين الافراد أنفسهم أو بينهم وبين الدولة دون تدخل من لدن السلطتين الاخريين. وعليه لابد ان تكون السلطة القضائية مستقلة ومحايدة في ممارسة وظيفتها القضائية، واستقلال السلطة القضائية أضحى مبدأ من المبادئ الدستورية والقانونية العامة التي تكاد ان تجمع عليه دساتير العالم وتشريعاتها الداخلية.
وان كانت أغلب الدساتير تجنح نحو ضرورة استقلال القضاء، لما فيه من ضمانة لحماية حقوق الانسان، والى عد القضاء سلطة مستقلة من سلطات الدولة الثلاث، فان هناك جانبا من الدساتير ذات النهج الدكتاتوري التي جعلت من القضاء تابعاً للسلطة التنفيذية وليس سلطة مستقلة، ولعل هذا ما تجسد في ظل دستور العراق لعام 1970 إذ عمد النظام إلى إلغاء (مجلس القضاء) عام 1977 واصبح القضاء يدار من (مجلس العدل) الذي هو برئاسة وزير العدل الذي يمثل السلطة التنفيذية، ولعل مرد ذلك الى الفلسفة السياسية التي كتب بها الدستور التي لم تكن تؤمن بكون القضاء سلطة مستقلة بذاتها وهو ما يتضح من نص المادة (63/أ) منه التي تشير الى (القضاء مستقل –وليس السلطة القضائية- لا سلطان عليه لغير القانون) ولقد استمر الحال كذلك حتى عام 2003 وصدور أمر سلطة الائتلاف المنحلة رقم 35 الذي أعاد تشكيل (مجلس القضاء) وليكون مستقلاً عن السلطة التنفيذية.
وعندما صدر دستورنا الحالي في عام 2005 فقد تبنى مبدأ الفصل بين السلطات بصورة صريحة في المادة (47) التي قضت بان (تتكون السلطات الاتحادية، من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، تمارس اختصاصاتها ومهماتها على أساس مبدأ الفصل بين السلطات)، ونص في مجموعة من مواده على استقلال السلطة القضائية -عضوياً ووظيفياً-. هذا الاستقلال الذي تتبدى مظاهره بالآتي:
1. الاستقلال المالي: الذي يعني أن يكون للسلطة القضائية ميزانية مالية مستقلة، وأن يتمتع القضاة برواتب تكفيهم لعيش حياة كريمة دون الشعور بضغط الحاجة المالية.
2. الاستقلال الإداري: والمتمثل باستقلال السلطة القضائية عن السلطات الاخرى فيما يتعلق بشؤون القضاة وعملهم، ومن مصاديق هذا الاستقلال: تعيين القضاة وترقيتهم، نقل القضاة وندبهم، الإشراف على عمل القضاة، المساءلة الانضباطية للقضاة وعزل القضاة. والمصاديق المذكورة جميعها يجب أن تكون من مختصات السلطة القضائية لوحدها دون تدخل من نظيراتها.
3. الاستقلال الوظيفي: أي استقلال القاضي في اصدار الاحكام والقرارات فالقضاة وهم يباشرون أعمال وظيفتهم القضائية فأنهم لا يخضعون في ذلك الا للقانون وحده دون أي تدخل في هذه الوظيفة من قبل السلطتين الأخريين كما انه لا يسوغ التدخل وتغيير منطوق الحكم أو القرارات من قبل أي جهة الا باتباع الطرق القانونية بالطعن أمام المحاكم ذات الدرجة الأعلى من المحكمة التي أصدرت الحكم، فلا يجوز لأية سلطة أن توجه الاوامر والمقترحات "الملزمة" للسلطة القضائية أو لأية هيأة قضائية أثناء ممارستها لعملها الوظيفي القضائي.
فيجب أن تكون السلطة القضائية غير خاضعة لأي من السلطتين الأخريين ولا للأهواء السياسية وتجاذباتها الناشئة عن اتجاهات الأحزاب السياسية.
انتهاك مبدأ استقلال القضاء
ورغم ذلك فان انتهاك مبدأ استقلال القضاء ليس بالأمر المستبعد وهو يظهر في صور عديدة لعل من أهمها ما يأتي:
1. التدخل في تعيين القضاة وذلك قد يكون إما استناداً الى نص في الدستور أو القانون أو استناداً الى اعتبارات سياسية تطغى على الجانب القانوني.
2. قد ينص الدستور على بيان الخطوط العامة والرئيسة في تنظيم عمل السلطة القضائية تاركاً التفاصيل للقوانين الاعتيادية، فبذلك يكون أمر تنظيم السلطة القضائية بيد السلطة التشريعية، وهنا تظهر الخشية من ايراد نصوص تجيز تدخل احدى السلطات بعمل السلطة القضائية.
3. عدم تقيد المشرع العادي بالمبادئ الدستورية أو تلك الثابتة بالأصول الدستورية العامة فيمس أو يتجاوز مبدأ استقلال القضاء عندما ينظم تشريعيا هذا الجهاز الهام وهو ما يظهر بوضوح فيما يعرف "بإصلاح القضاء" حيث يتم استبعاد بعض القضاة من مناصبهم أو الغاء بعض الجهات القضائية.
4. قد يقوم المشرع باقتطاع جزء من اختصاص القضاء ويسنده الى جهات أخرى غير قضائية، كأن تكون لجان إدارية أو شبه قضائية، أو ان يستثني بعض الاشخاص أو تصرفاتهم من الولاية العامة للقضاء دون مسوغ منطقي وقانوني معقول.
5. التدخل بالأحكام القضائية بصورة ملفتة للنظر وذلك في القضايا التي صدرت فيها أحكام قضائية نهائية، كإصدار قوانين العفو العام وتوسيع نطاق هذه القوانين لتشمل جرائم على قدر من الخطورة.
6. توجيه إحدى هيئات السلطة القضائية بوجهة معينة من قبل احدى سلطات الدولة كإصدار قرار قضائي لمصلحة الحكومة أو البرلمان أو عدم اصدار مثل هكذا قرار.
7. التدخل من قبل سلطات الدولة الاخرى في نقل القضاة وتأديبهم وانهاء خدماتهم.
8. قيام وسائل الاعلام واصحاب السلطة السياسية بأطلاق وصف "قضية رأي عام" على مجموعة من الدعاوي اذا مست بعض الجهات أو الشخصيات السياسية لإثارة الرأي العام ولتجريد السلطة القضائية من الشعور بالاستقلال.
فاذا تحققت واحدة من الفرضيات المتقدمة أو أكثر فان استقلال السلطة القضائية يصبح في مهب الريح، وينهدم مبدأ سيادة حكم القانون الذي يتوقف عليه بناء الدولة القانونية وبذلك تعصف بالحقوق والحريات العامة ريحا عاتية فيها انفاس الدكتاتورية.
النظام القضائي العراقي
وهنا نتساءل عن نصيب النظام القضائي العراقي من الفرضيات المتقدمة التي تفقد السلطة القضائية استقلالها ولاسيما بعد صدور دستور 2005 الذي أكد على مبدئي الفصل بين السلطات واستقلال السلطة القضائية؟
لابد لنا ابتداءً من الاشارة الى ان السلطة القضائية الاتحادية في العراق تتكون من (...مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية العليا ومحكمة التمييز الاتحادية وجهاز الادعاء العام، وهيئة الأشراف القضائي والمحاكم الاتحادية الأخرى، التي تنظم وفقاً للقانون.)، ومن (... مجلس دولة يختص بوظائف القضاء الاداري...)، وان كان الاخير موجوداً الان تحت مسمى "مجلس شورى الدولة" بموجب قانونه رقم 65 لسنة 1979 المعدل وهو –مع الاسف- تابع لوزارة العدل إدارياً، غير انه يمارس عملاً قضائيا ً كما هو واضح من النص الدستوري ومن مكان وجوده في الدستور حيث وضع ضمن الفصل الثالث "السلطة القضائية" من الباب الثالث الموسوم "السلطات الاتحادية".
ونعود للإجابة عن التساؤل المطروح في أعلاه ونلاحظ بصدده الآتي:
1. أشارت المادة (61 /خامسا) وهي في معرض بيانها لاختصاصات مجلس النواب العراقي بان للمجلس الموافقة على تعيين (.. رئيس وأعضاء محكمة التمييز الاتحادية. ورئيس الادعاء العام، ورئيس هيئة الاشراف القضائي. بالأغلبية المطلقة، بناءً على اقتراح من مجلس القضاء الأعلى.) ولذا بينت المادة (91/ثانياً) بان يقوم مجلس القضاء الاعلى ب (ترشيح رئيس وأعضاء محكمة التمييز الاتحادية، ورئيس الادعاء العام، ورئيس هيئة الاشراف القضائي، وعرضها على مجلس النواب للموافقة على تعيينهم.)، فالمجلس اذن سيتولى مهمة الترشيح فقط أما الموافقة على ذلك فستكون للمجلس النيابي، وهو ما يتعارض مع مبدأ استقلال السلطة القضائية الوارد ذكره في الدستور، فهذا التنظيم الدستوري سيجعل من المرشحين لهذه المناصب القضائية العليا خاضعين لإرادة البرلمان وبصورة أدق للأحزاب السياسية فيه لكي يحصلوا على دعمهم والموافقة على تعيينهم لان كل حزب سيوافق على تعيين المرشح الاقرب اليه في التوجه والافكار، فكل مرشح يجب ان ينال رضا بعض التيارات السياسية لتعيينه في منصب قضائي يحتاج الى الكفوء والنزيه وصاحب الفكر القانوني الثاقب، أي بمعنى ان كل مرشح عليه ان ينضم الى حزباً متنفذاً بطريقة أو بأخرى ليضمن حصوله على هذا المنصب القضائي، وهو ماكان يجب أن يبتعد عنه المشرع الدستوري، لاسيما وان المادة (98/ثانياً) من الدستور تحظر على القاضي وعضو الادعاء العام الانتماء الى أي حزب أو منظمة سياسية أو العمل في أي نشاط سياسي.
2. قبل تولي الشخص لمنصب قاضي عليه ابتداءً –كأصل عام- ان يدخل في المعهد القضائي ويتخرج منه، وهذا المعهد يرتبط بوزارة العدل وهو بموجب قانونه رقم 33 لسنة 1976 المعدل يهدف الى (اعداد مؤهلين لتولي الوظائف القضائية، قضاة ونواب مدع عام..)، وبالتالي فان عملية قبول المتقدمين لهذا المعهد ستخضع ابتداءً لسطوة السلطة التنفيذية وللأهواء السياسية لان الوزارات عموماً في العراق يغلب على تقاسمها النفس الحزبي التوافقي بحسب الكتل السياسية ولا علاقة لها بمسألة استيزار اصحاب الكفاءة والمهنية، لذا فما هو الضامن من قبول من لم يكن ذي مقدرة قانونية وعقلية متفتحة بل كل ما يملكه هو انتسابه لاحد الاحزاب السياسية أو على الاقل تقربه منها بصورة مريبة واستبعاد من له ملكة قانونية جيدة لا لشيء سوى لكونه بعيداً عن التنظيمات الحزبية؟ ثم ما اثر ذلك على عمله بعد تخرجه من المعهد -ان تخرج من المعهد بالاعتماد على مجهوده الذاتي-؟ فهل سيبقى القضاء مستقلا بعد كل ذلك؟.
ان استقلال القضاء هدف سامي يسعى لتحقيق العدالة في المجتمع وهو ما نادت ولا تزال تنادي به شعوب الدول الحرة لتشيد لأنفسها دولة القانون بدلاً عن الدولة الدكتاتورية، دولة مؤسسات لا دولة اشخاص. ولا اعتقد ان تحقيق ذلك بعزيز على المشرع الدستوري والعادي اذا وجدت الارادة الحرة التواقة لبناء دولة العراق الجديد فيكون ذلك بتعديل نصوص الدستور ونصوص القوانين الاخرى ذوات العلاقة والتي اشرنا الى جزء منها.
* الورقة المقدمة للحلقة النقاشية المتخصصة التي عقدها مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحرّيات تحت عنوان: ضمانات إستقلال القضاء وأثرها في تشييد أسس الحُكم الرشيد في العراق
...................................................
اضف تعليق