التربية هي السبيل الأهم لتقويم الفرد، ومن ثم المجتمع كله كونه يمثل حاصل جمع الأفراد، فالمهمة التي يتصدى لها القطاع التربوي كبيرة وخطيرة في ذات الوقت، إذ يقع على كاهلها معالجة الأخطاء الإدارية والسياسية والاجتماعية فضلا عن التربوية بأنواعها، على أن تكون هنالك أولوية لمعالجة الجانب الأخلاقي للمجتمع، لسبب واضح، أن الأخلاق المكتملة يمكنها أن تقي الناس جميعا من شرور الفساد بكل أشكاله وأنواعه ومصادره.
ولكن ماذا لو كان الفساد حاضرا في القطاع التربوي نفسه، فمن ذا الذي يعالِج المعالِج؟ وهل يصح للمريض أن يقوم بمهمة معالجة الطبيب، هل يجوز أن تنعكس الحالة، ويحدث تبادل في الأدوار فيقوم المُصاب بالمرض بالتصدي لمعالجة من تقع عليه مهمة تحرير المرضى من أمراضهم، نعم عندما يكون القطاع التربوي نفسه فاسدا فهذا يعني حلول الكوارث في المجتمع والدولة معا.
يذكّرنا هذا الحال بالبيت الشعري الذائع (إلى الماء يسعى من يغصُّ بلقمةٍ.... إلى أين يسعى من يغصّ بماءِ)، فالشعب والفرد المريض بالفساد، لا شك أن سوف ينتظر الخلاص من الفساد من خلال التربية واستنهاض الروح الأخلاقية النائمة في أعماق الفرد والمجتمع، أما عندما يكون المربّي (من القطاع التربوي) نفسه يعاني من أمراض الفساد فهذه معضلة ما بعدها معضلة، والسؤال هنا كيف السبيل إلى حلّها؟.
لا شك أننا لا نتجنى على أحد عندما نتكلم بهذا الوضوح، فعلاج المشكلات الخطيرة يكمن في مواجهتها علناً، أما التعامل معها بالخفاء فهذا لا يجدي نفعا، من المعروف أن الفساد الإداري والمالي وسواهما من أنواع الفساد يعد من الملفات الكبيرة التي تحضر بقوة في المشهد الاعلامي الراهن، بل يمتد تداول هذا الملف الى الشارع العراقي بشقيه المدني والريفي، إذ أن جميع العراقيين يتحدثون عن صفقات الفساد في الوزارات ودوائرها، وخطورته الكبيرة على الاقتصاد لاسيما أن الدولة تعاني من عجز مالي كبير.
مؤشرات كثيرة على الفساد
كما أننا نخوض حرب استنزاف منذ منتصف سنة 2014 وحتى الآن ولا يعرف أحد الى متى ينتهي هذا النزيف في الموارد العراقية، يُضاف الى هذه الكارثة المستمرة، كوارث مرادفة يصنعها الفساد ويديمها، فيُثقَل كاهل الدولة لتصبح بين مطرقة حرب الاستنزاف وسندان الفساد، وكما يقول المثل الشعبي (فوق الحمل تعلاوة)، وهكذا فإن الكل يتحدثون عن الفساد ويدينونه، ويدينون الحيتان التي تقف وراءه، لكن على الرغم من ذلك، تشير الوقائع الى تزايد الفساد، وتنامي الحيتان، وتعدد أشكالها وأنواعها وأساليبها، وهذه مفارقة عجيبة حقا، حيث يتحدث الجميع عن رصد الفساد ومقاومته، في حين يُفصح الواقع عن العكس تماما.
في القطاع التربوي ثمة مؤشرات كثيرة على فساد يوجد بهذا القطاع، على الرغم من أنه معني بتوجيه الفرد والمجتمع، آخر هذه المؤشرات، عدم قدرة الجهات المعنية على توفير الكتب الدراسية للطلبة في صفوف مختلفة وأكثر من مرحلة، وثمة مؤشرات وأدلة سابقة، تتعلق بقلة بنايات المدارس، وزيادة في الكادر مع تراجع في المستوى العلمي للمراحل كافة، المشكلة أن الجميع ينتقد ويرفض الفساد، لكنه يبقى حاضرا شاخصا قويا، وينمو باضطراد ولا أحد يستطيع أن يوقفه عن حدّه.
ومن الغرابة بمكان أن جميع العراقيين، سائلين أو مسؤولين، يتحدثون عن الفساد بالرفض والاستهجان ويدينونه، لكنه مع ذلك ينمو كالسرطان الذي لا يفيد معه علاج من اي نوع كان؟، ولكن معالجة الفساد لن تتم برفضه او استهجانه فحسب، فحتى الغاطسين بالفساد من أخمص القدمين الى قمة الرأس يرفضونه بالكلام، ولكن عند التطبيق لا نجد أثرا فعليا للرفض.
من الواضح أن اللسان قد ينطلق بشيء والأفعال شيء آخر، هناك فارق كبير بين الكلام وتطبيقه، وهناك قول مأثور يؤكد على أن الكلمات الجيدة لاتعبر بالضرورة عن صدق النوايا وطبيعة الافعال، فأنت أو أنا أو هو، حين نتحدث بكلام جميل، يمكننا أن نخفي وراءه ما هو أسوأ من النوايا والافعال التي نريد أن نُقْدِم عليها أو نمارسها، وهكذا يمكن القول أننا ندين الفساد ونمارسه في آن، هذه الازدواجية ليست غريبة، خاصة في غياب القانون الحقيقي الرادع للفساد وأصحابه، أما عندما يتعلق هذا الفساد في القطاع التربوي فهنا تكمن الطامّة الكبرى.
معضلة اللجان التحقيقية
غالبا ما تذهب الجهات الحكومية المعنية أو سواها الى تشكيل اللجان التي يُطلَب منها معالجة هذه الحالة او تلك من حالات الفساد، ولكن توصَّلنا من خلال التجربة أن تشكيل اللجان التحقيقية يمكن أن يُعطى صفة التسويف والمراوغة، من أجل التهدئة التدريجية لكي ينسى الناس هذا الملف أو ذاك، وهذه الكارثة أو تلك، ليواصل المفسدون والفاسدون دورهم التخريبي في إجهاض التجربة العراقية التي كان الشعب يأمل بها الخلاص من أوضاعه البائسة وحالات الجهل التي تعاني منها قطاعات وشرائح واسعة.
ولعل المشكلة المثيرة للاشمئزاز أكثر من سواها، أن المسؤول عن الفساد نفسه يعلن بالكلام أنه ضد الفساد، فكثيرا ما تحدَّث مسؤولون كبارا عن الفساد واعتبروه القوة المعاضدة للارهاب، لكن عندما نبحث عن الخطوات الرادعة لهذا الملف، فإننا لم نلحظ حتى اللحظة حوتا كبيرا أخذ قصاصه نتيجة لابتلاعه أموال الفقراء، ولم نشهد خطة محكمة وفاعلة لمكافحة الفساد بصورة فعلية، في القطاع التربوي أو سواه من مؤسسات ودوائر الدولة المختلفة، وكأننا نحرث في الهواء، في حين يستهدف الفاسدون من ذلك تعجيز الشعب وإحباطه.
قد تدخل الأحزاب والسياسة في عدم ردع الفاسدين، وربما تتدخل جهات ذات نفوذ لتحمي أعضائها المتهمين بالفساد، لسبب واضح أنهم مستفيدون من هؤلاء المسؤولين، لذلك هناك محاولات كما يقول بعض المراقبين متواصلة لتسييس ملفات الفساد، والتلويح بالتعامل بالمثل، فإذا فضحتني في هذا الملف سأفضحك في ذاك، والنتيجة سنخسر نحن الاثنان، فالأفضل أن نغض الطرف عن بعضنا وننسى الأمر، وهكذا تتم عملية تغاضي وصمت وتسويف متبادلة، نتائجها السيئة تقع على عموم الشعب، يحدث هذا في مؤسسات ودوائر مختلفة، ولكن أن يحدث في القطاع التربوي، فهذا ما يشكل كارثة حقيقية ينبغي التعامل معها كما تتعامل الدولة مع المشاكل الخطيرة.
قد يصنع الوضع الراهن بخصوص طرد داعش من الموصل وتحرير المناطق العراقية من دنسهم، مصاعب للحكومة في مواجهة الفساد، ولكن كثير من المتخصصين يؤكدون أن الفساد هو وجه آخر لداعش، لهذا لابد من وقفة جادة من قطاع التربية نفسه، والقائمين عليه لمعالجة حالات الفساد كافة.
في الحقيقة لابد أن تبحث الحكومة والقضاء والمشرعون، عن حلول جديدة صارمة لمواجهة هذا الوباء المهلك، فنحن كعراقيين ننظر بعين الترقّب، الى خطوات حقيقية لمكافحة الفساد، لها القدرة والفاعلية على تحقيق هذا الهدف، ولن يتحقق هذا المطلب الشعبي ما لم يتم إخراج ملف الفساد من قبضتيّ التسويف والتسييس معا، ولابد من إعطاء الأولوية في معالجة الفساد الى القطاع الذي نحن بصدد الكلام عنه، إذ من غير الممكن أن ينهض قطاع تربوي ينتشر فيه الفساد في بناء مجتمع ودولة قوية، ففاقد الشيء لا يعطيه حتما.
اضف تعليق