وكما يستحسن على المستوى الاتحادي ان تتشكل السلطة التشريعية والتنفيذية على أساس ثنائية السلطة فيتشكل البرلمان من غرفتين والسلطة التنفيذية من رئيس الدولة والحكومة فان الحكمة ذاتها تقتضي ان تتشكل السلطة المحلية بذات الصورة مع الأخذ بنظر الاعتبار أهمية مراعاة آليات التشكيل التي تتفق مع الإرادة التشريعية (الدستورية)...

 تبنى الدستور العراقي للعام 2005 نظام الحكم الجمهوري البرلماني وأخذ بالديمقراطية النيابية وكل ما تقدم كان مقروناً بنظام فدرالي فقد ورد في المادة الأولى ان جمهورية العراق "دولة اتحادية واحدة مستقلة، ذات سيادة كاملة نظام الحكم فيها نيابي (برلماني) ديمقراطي، وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق".

 ويفهم مما تقدم ان الدستور العراقي النافذ تبنى نظاما قائما على الحكم الديمقراطي وأكدت المادة الخامسة من الدستور أن الشعب هو المالك الحقيقي والوحيد للسلطة وهو يمارسها بالاقتراع حيث أن "السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات وشرعيتها، يمارسها بالاقتراع السري العام المباشر وعبر مؤسساته الدستورية".

 ولما كان المعنى الحقيقي للسيادة الشعبية لا يكتمل إلا بالتمثيل الحقيقي الكامل على المستوى المحلي والوطني فباتت الديمقراطية المحلية والإقليمية التجسيد الحقيقي لسيادة القانون والإرادة الشعبية، ومن المتعين ان يسهم الفرد في اختيار من يمثله في ممارسة السلطة سواء منها التشريعية أو التنفيذية بعملية الاقتراع العام السري المباشر التي أشارت إليها المادة المذكورة أنفاً.

 وكما يستحسن على المستوى الاتحادي ان تتشكل السلطة التشريعية والتنفيذية على أساس ثنائية السلطة فيتشكل البرلمان من غرفتين والسلطة التنفيذية من رئيس الدولة والحكومة فان الحكمة ذاتها تقتضي ان تتشكل السلطة المحلية بذات الصورة مع الأخذ بنظر الاعتبار أهمية مراعاة آليات التشكيل التي تتفق مع الإرادة التشريعية (الدستورية) المؤسسة فقد ورد بالمادة (116) ان "يتكون النظام الاتحادي في جمهورية العراق من عاصمة وأقاليم ومحافظات لامركزية وإدارات محلية"، نفهم من هذا النص ضرورة ان تبقى العاصمة السياسية للعراق ((بغداد)) بحدودها الإدارية المعروفة على ما تعارفت عليه القواعد القانونية المنظمة للمحافظات مع بعض الخصوصية التي وردت في قوانين محددة، ومنها قانون إدارة البلديات كما ان المادة (124) حدت أحكاماً خاصة للعاصمة تمثلت بأن "بغداد بحدودها البلدية عاصمة جمهورية العراق، وتمثل بحدودها الإدارية محافظة بغداد، وينظم وضع العاصمة بقانون، ولا يجوز للعاصمة ان تنضم لإقليم "أما المحافظات الأخرى فقد أشارت المادة (122) من الدستور إلى الأحكام القانونية الخاصة بها، حيث تنص على أن "تتكون المحافظات من عدد من الأقضية والنواحي والقرى".

وعند التمعن بالنص المتقدم نلحظ ان المشرع الدستوري يريد لهذه المكونات ان تحيا بشكل مستقل كشخص معنوي عام وبالوقت عينه متضامن مع بقية مكونات المحافظة والدليل أنه حدد المكونات بـ(الأقضية/ النواحي/ القرى) فما الحكمة التي حدت بالمشرع العراقي في قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم أن يمنح المحافظة والقضاء ولاية تكوين مجلس منتخب وجهة تنفيذية تترأس الوحدة الإدارية تتمثل في (المحافظ/ القائم مقام) ويسلب الناحية هذا الحق الدستوري بموجب التعديل الثالث للقانون المذكور بالقانون رقم (10) لسنة 2018 إذ تم الإبقاء على مدير الناحية فقط، فما السبب الكامن وراء هذا الإلغاء؟ وهل يمكن التعويل عليه في ترسيخ الحكم الديمقراطي الراشد محلياً؟ 

للإجابة على ما تقدم نعرض لأهم فوائد المجالس المحلية الملغاة كمجلس الناحية، والمجلس البلدي وغيرها:

- أنها أجهزة إدارية بالدرجة الأساس وظيفتها الأهم إصدار القواعد القانونية المحلية اللازمة لضمان إشباع الحاجات المحلية.

- ان مجلس الناحية والمجالس البلدية تسهم في ترشيد الإدارة المحلية كونها تعد وبحق جهات محلية قريبة من المواطن المحلي وهمومه وتطلعاته، لذا تجتهد في متابعة المشاريع التي تمس حياته اليومية وتؤكد حقوقه وتصون مصالحه وكرامته الإنسانية، كما إن لها دوراً في صياغة معايير العمل الخدمي المحلي.

- ان المجالس المحلية تسهم في الرقابة على الجهات اللامركزية الأخرى كمدير الناحية أو محتار القرية أو المحلة، وتسهم الرقابة في رشد عمل هؤلاء.

- هذه المجالس يمكن ان تسهم في تقييم الواقع المحلي من خلال التقارير الدورية التي تقدمها إلى الجهات الأعلى كمجلس المحافظة أو المحافظ ومنها تقارير التخمينات الخاصة بالموازنة اللازمة للنهوض بالخدمات الأساسية للمنطقة، كما أنها وبحق حلقة وصل بين الجهات المحلية على مستوى المحافظة والمواطن في القرى والقصبات والمناطق الأبعد عن حواضر المدن، أضف لما تقدم أنها تسهم في التنسيق الفعال مع الجهات المركزية أيضاً وترشد الأخيرة إلى أهم العقبات والمشاكل التي تواجه السكان المحليين.

- هذه التشكيلات تعد وبحق سلطة محلية قادرة على تمثيل الثقافة المحلية وتنميتها والمحافظة عليها من الاندثار أو التشويه.

- تضم هذه المجالس ممثلين عن السكان المحليين في التشكيلات الرسمية التي تدير الشأن العام فيكون هؤلاء أقدر من غيرهم على تمثيل الإرادة العامة المحلية.

- ان تشكيل هذه المجالس والهيئات المحلية من شأنه ان يدعم مبدأ المساواة بين العراقيين في إدارة الشأن العام فيكون للإرادة الفردية لكل مواطن عراقي دور في تشكيل الإدارات المحلية في الدائرة الضيقة ثم الأوسع فالأوسع حتى نصل إلى المجلس النيابي على مستوى العراق.

- يمكن ان تمثل العملية الديمقراطية بما تتضمنه من ترشيح وتقديم برامج انتخابية وتقييمها وخوض غمار الاقتراع العام على أكثر من صعيد في تدعيم النهج الديمقراطي والسلوك الحر لأفراد الشعب فالانتخابات بتكرارها وتواليها تمثل مدرسة تدعم تنمية الشعور بالمسؤولية إزاء المجتمع والدولة وسيادة القانون.

وبالعودة إلى نص المادة (124) نجد ان المشرع العراقي أهمل التأسيس للإدارات المحلية التي تعبر عن حاجة ماسة في العراق لاسيما على مستوى بعض نواحي العراق وقراه التي تضم بين جنباتها أكثرية لمكون معين من الأقليات الدينية أو العرقية الكريمة، والتي لها الحق الكامل في الاعتراف لها بالوجود القانوني بتشكيل إدارة محلية من سكنة تلك الأنحاء ليديروا شؤونها، أضف إلى ذلك بهذه الطريقة ممكن ان نحقق الخصوصية التي صانها الدستور العراقي لهذه الفئات حين ورد النص في المادة الثالثة منه على "العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب" لذا نعتقد ان تشكيل مثل هذه الوحدات والمجالس ودعم خيار الانتخاب المباشر للمحافظ والقائم مقام ومدير الناحية والمختار من شأنه ان يحقق:

أولاً: الاستقلال الذاتي النسبي للتشكيلات الإدارية اللامركزية والمكونات المحلية الدينية والعرقية.

ثانياً: المشاركة الفاعلة والعادلة لجميع الأفراد في تشكيل سلطة التقرير والتنفيذ.

ثالثاً: رشد القرار الإداري الصادر عن هذه التشكيلات كونه صادرا عن الجهات الأكثر قرباً ومعرفةً بالاحتياجات المحلية.

 ومن المنطقي جداً ما تقدم كون نظام اللامركزية الإدارية يدعم تشكيل جهات محلية ويمنحها الشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري عن السلطة المركزية ما يقدم فرصة لتطوير المجتمعات المحلية بشكل مستقل عن الإدارة المركزية التي تمتاز بالبيروقراطية والبطء الشديد في إجراءاتها الخدمية والعمرانية، كما ان القرار المحلي يكون أقرب إلى ترجيح الأولويات ووفق سلم الأفضلية في تنفيذ المشاريع، ويدعم الحوكمة والشفافية.

 فعلى سبيل المثال ورد في قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم بالمادة (8/خامساً) ان من الواجبات الملقاة على كاهل مجلس المحافظة وهو بصدد صياغة مشروع الموازنة المالية للمحافظة ان "إعلان مشروع الموازنة العامة للمحافظة في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة وعقد الندوات والمؤتمرات لمشاركة مواطني المحافظة ومنظمات المجتمع المدني والوقوف على آرائهم، قراءة مشروع الموازنة قراءتين أولى وثانية في جلستين منفصلتين والمصادقة عليها وإجراء المناقلة بين أبوابها بموافقة الأغلبية المطلقة لعدد الأعضاء على ان تراعى المعايير الدستورية في التوزيع لمركز المحافظة والأقضية والنواحي ورفعها إلى وزارة المالية الاتحادية لتوحيدها مع الموازنة العامة الاتحادية"، ويمكننا أيضا التأكيد ان فتح باب التعاون بين السلطات المحلية والمركزية من شأنه ان يفتح باباً للارتقاء وحسن أداء الأعمال.

 ولتتحقق الفائدة العملية وتقترن بالغاية الدستورية ينبغي ان نشير إلى ان قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم العراقي رقم (21) لسنة 2008 لم يكن موفقاً في تنظيمه لأطر العلاقة بين السلطات المركزية مع المحلية أو المحلية بعضها بالبعض الأخر ولنا ان نقدم فيما تقدم مثالين هما:

الأول الاعتراض على قرارات مجلس المحافظة: إذ منح القانون لجهتان اختصاص الاعتراض فقد أشارت المادة (20) من القانون إلى أن "لمجلس النواب أن يعترض على القرارات الصـادرة مـن مجلس المحافظة إذا كانت مُخالفة للدستور أو القوانين النافذة، وفي حالة عدم إزالة المخالفة فلمجلس النواب إلغاء القرار بالأغلبية البسيطة"، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن لماذا يرجح المشرع كفة القرار النيابي على القرار المحلي والمجلسين كلاهما منتخب؟ فكلاهما تمثلان الإرادة العامة للجماهير المحلية؟

 وبرأيي ان الأمر لا يستقيم دون إسناد ما تقدم إلى القضاء فهو الحكم بين السلطات، كما أشارت المادة (31/حادي عشر من القانون إلى "للمحافظ الاعتراض على قرارات مجلس المحافظ أو المجلس المحلي في الحالات الآتية: (إذا كانت مخالفة للدستور أو القوانين النافذة، إذا لم تكن من اختصاصات المجلس، إذا كانت مخالفة للخطة العامة للحكومة الاتحادية أو للموازنة" وهذه المادة هي الأخرى لم يكن المشرع موفقاً في صياغتها ولا تدعم رشد القرار المحلي فالمحافظ المنتخب من قبل المجلس المراقب أصلا من قبل المجلس كيف يمنح ولاية الاعتراض على قرارات المجلس؟؟ إذ كان الأولى ان يمنح اختصاص تنبيه المجلس إلى الخطأ المفترض وفي حال إصرار المجلس يتم الاحتكام إلى ولاية القضاء الإداري كونه الأقرب من حيث الاختصاص والأقدر على حسم الأمر بيسر وسهولة ويتمتع بخاصية الاستقلال والموضوعية والحياد.

أما المثال الثاني يتصل بإقالة المحافظ: فهذا الاختصاص منح إلى جهتين أيضاً بموجب المادة (7/الفقرة 8) الأولى هي مجلس المحافظة وهو الأمر الطبيعي ولا غبار عليه، أما الجهة الأخرى فهي مجلس النواب الذي منح نفسه القدرة على استجواب المحافظ وإقالته بناءً على طلب من رئيس الوزراء، وبما ان مجلس النواب يمثل الشعب العراقي وهو المؤتمن على المصلحة العامة والرقيب على السلطة التنفيذية فلا جناح في رقابته على المحافظ، بيد ان الغريب هو تحديد أسباب الإقالة الحصرية التي تتمثل في:

‌أ- عدم النزاهة أو استغلال المنصب الوظيفي.

‌ب- التسبب في هدر المال العام.

‌ج- فقدان أحد شروط العضوية.

‌د- الإهمال أو التقصير المتعمدين في أداء الواجب والمسؤولية.

والسؤال كيف يمكن لمجلس المحافظة أو مجلس النواب ان يتهم المحافظ بعدم النزاهة وهل هذه المجالس مؤهلة للبحث في الأدلة الجنائية لتثبت تهمة عدم النزاهة ام تتم الإقالة بناءً على الشبهة والظن؟؟ وكذا الأمر بالنسبة للتسبب بهدر المال العام هل يمكن لمجلس مثل للمجلس ان يثبت التسبب بهدر المال العام؟ وهل يمكنه الخوض في القيمة القانونية للأدلة؟ وان ثبت قضائياً براءته فيما بعد عن هذه التهم كيف سنتعامل مع حق المحافظ في الكرامة التي أهدرت؟

..........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2025

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

http://ademrights.org

ademrights@gmail.com

https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق