تساهم الية إصدار القوانين وتشريعها دور في نشر الفساد لان القانون دائما ما يعبر عن وجهة نظر وفلسفة السلطة القابضة على الحكم فتشرع القوانين التي تكون وسيلة مقيدة للحرية بدلاً من ان تكون وسيلة ترتقي بالمجتمع إلى مصافي الرقي والتقدم والحضارة. كما ان بعض الدول تتمسك...
ربما عنوان هذه الورقة يحتوي على الغرابة في طرحه، لان مفهوم القانون يتنافى مع مضمونه، فكل يشخص يسعى لان يكون عمله مشروعا من خلال الالتزام بالنصوص القانونية النافذة، وكل فعل يجرمه القانون يحاسب مرتكبه على أساس انه متهم بالإجرام، كما ان جميع المواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية تقرن الديمقراطية بوجود دولة القانون، فكيف يكون القانون من المساهمين في نشر الفساد، ولغرض الوصول إلى هامش مقنع في الإجابة لابد من تفصيل الموضوع وتعريف القانون وبيان ماهية الفساد وكيف يكون القانون وسيلة إفساد وليس آلة إصلاح وعلى وفق ما يلي:ـ
أولا: تعريف القانون وبيان الفساد
1. تعريف القانون
من المهم معرفة معنى كلمة قانون وما تدل عليه اصطلاحاً لان البعض ينظر إلى تلك المفردة بقدسية عالية تصل إلى حد تفضيل القواعد التي تصدر تحت لافتتها على القواعد السماوية الآمرة ويخشى البعض مخالفتها ولا يخشى مخالفة القواعد السماوية. لذلك فان كلمة القانون وعلى وفق ما ذكره بعض الكتاب في الفقه القانوني ومنهم الدكتور منير الوتري في كتابه الموسوم (القانون) ص5 الطبعة الثانية عام 1989، إذ بين بان كلمة القانون ليست عربية وإنما هي مأخوذة من كلمة kanon اللاتينية، ومعناها القاعدة أو التنظيم ومنها أخذت canon الفرنسية التي كانت تطلق في العصر المسيحي على القرار التي تصدرها المجامع الكنسية))، ويضيف الكاتب المذكور ((ان الأوربيين كانوا أولى من العرب باستعمال هذا اللفظ للتعبير عن معنى القواعد العامة، إلا إنهم لم يستعملوه إلا بالنسبة للقرارات الدينية وإنما استعمل الإنكليز كلمة jurisprudence واستعمل الفرنسيون كلمة Driot للدلالة على القانون بوجهه العام وللدلالة على القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية)). لذلك نرى ان كلمة قانون ليست من مشتقات اللغة العربية ولم تكن ذات استعمال في كل اللغات الأخرى،!
وإنما اعتقد بها العرب واستعملوها. وأصبحت وسيلة المتمردين على الواقع وجعلوها رديف الديمقراطية من اجل الرفاهية مثلما اعتبرتها الأنظمة الحاكمة الوسيلة لتعزيز الديمقراطية التي يعتقدون بها ويظنون إنهم رعاتها وقادتها.
2. تعريف الفساد
هل الفساد فعل أم ظاهرة؟ اذ يتباين الاثر في التعريف بين كون الفساد فعل بحد ذاته يدل عليه وصفه القانوني كفعل يجرمه القانون ويعاقب عليه ام انه يشكل ظاهرة عامة في مجتمع ما او في عدة مجتمعات ام انها تقتصر على فئة دون اخرى لذلك سأذكر تعريف الفساد على وفق بعض التعاريف التي اوجدها المختصون وكما يلي:
أ- تعريف الفساد كونه فعل
تتنوع التعريفات الخاصة بمفهوم الفساد وذلك كما يلي:
- يرى البعض بان الفساد هو خروج عن القوانين والأنظمة (عدم الالتزام بهما)، أو استغلال غيابهما، من اجل تحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية مالية وتجارية، أو اجتماعية لصالح الفرد أو لصالح جماعة معينة للفرد مصالح شخصية معها.
- وهناك اتفاق دولي على تعريف الفساد كما حددته منظمة الشفافية الدولية وهو كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة، أي أن يستغل المسؤول منصبه من اجل تحقيق منفعة شخصية ذاتية لنفسه أو لجماعته.
وبشكل عام يمكن ملاحظة ملازمة العنصريين التاليين لفعل الفساد:
اولاً: مخالف للقانون والنظام وتعليمات المنصب العام وغير منسجم مع القيم الأخلاقية السائدة في المجتمع.
ثانياً: سوء استخدام المنصب العام أو استغلاله يهدف إلى خدمة أغراض خاصة أو تحقيق منافع شخصية مادية أو معنوية.
وبالنتيجة فان الفساد يؤدي إلى إلحاق الضرر بالمصلحة العامة.
ب- الفساد يشكل ظاهرة
إذا ما أردنا البحث في موضوع الفساد كظاهرة معاصرة، إن التحديد الدقيق لمفهوم (الظاهرة) يمكن أن يعبر عنه على أنه تواتر حدوث الحالة وتكرار وقوعها بين الحين والآخر، فعلى هذا المنوال نجد أن ما أستجد وقوعه من حوادث يسمى حالة أو حادثاً، في حين أن ما تواتر وتكرر حدوثه يسمى ظاهرة، كما أن الظواهر لها ما يميزها من السمات التي تكاد أن تبدو متشابهة بين كل حدث متكرر من أحداثها، والفساد كفعل له صفة الاستمرارية والتكرار وبتوافر معظم حوادثه على صفات وقواسم مشتركة، اكتسب ما يجعله مستوفي لشروط الوصف على أنه ظاهرة، وبحكم كون المجتمع السياسي هو الوسط الذي ولدت ونمت في كنفه تلك الظاهرة، إذن هي من قبيل الظواهر السياسية.
لذا فإن الفساد يشكل ظاهرة إجرامية او سلوك منحرف عن قواعد السـلوك الاجتماعي السائدة في المجتمع، وذلك تأسيسا على إن السلوك الإجرامي ليس محض واقعة يجرمها القانون، ولكنه سلوك يصدر من إنسان يعيش في بيئة معينة ووسط مجتمع معين، ومن ثم فهو سلوك اجتماعي منحرف، لذلك فان دراسة أسباب ودوافع الفساد يعطي التفسير لهذه الظاهرة وبالتالي فان تفسير هذه الظاهرة ينطبق عليه ما يقال عن تفسير الظاهرة الإجرامية بصفة عامة حيث يقرر علماء الجريمة إنها لا ترجع إلى مصدر واحد أو مصدرين بل تنبع عن مصادر عديدة متنوعة ومتشابكة ومعقدة، وبالمثل فالفساد المالي والاداري، كظاهرة إجرامية لها خصوصيتها بين غيرها من الظواهر الإجرامية الأخرى، ليس فعلا منعزلا أو عرضيا ولكنه ثمرة تضافر عوامل عديدة تحركه وتحدد تكوينه وهيئته وظهوره.
ثانيا: آلية إصدار وتشريع القوانين
تساهم الية إصدار القوانين وتشريعها دور في نشر الفساد لان القانون دائما ما يعبر عن وجهة نظر وفلسفة السلطة القابضة على الحكم فتشرع القوانين التي تكون وسيلة مقيدة للحرية بدلاً من ان تكون وسيلة ترتقي بالمجتمع إلى مصافي الرقي والتقدم والحضارة. كما ان بعض الدول تتمسك بأهداب القانون من اجل ان توصف بالديمقراطية وهذا لا أراه متوفر في الأنظمة الدكتاتورية الانفرادية الشمولية فإنها لا ترى سوى مصلحتها بغض النظر عن حق المجتمع والمواطن ولنا في القوانين التي صدرت في الحقبة الماضية القانون هو الوسيلة التي تخضع المواطن للأوامر التي يتضمنها النص والذي عادة ما يعبر عن وجهة نظر من شرعه ووضعه.
وهنا لابد من الإشارة إلى ان الموضوع يتعلق بالقوانين الوضعية التي هي من وضع البشر حصراً ولا علاقة لنا بسواها من القواعد، لذا فان مجرد صدور القانون من قبل السلطة القابضة على مقادير الحكم يكون ملزم وواجب التطبيق من قبل أجهزة السلطة وواجب التنفيذ من قبل المواطن، بغض النظر عن كون هذه السلطة التي أصدرته مكتسبة الشرعية الدستورية أو مفوضة من قبل الشعب أم إنها استولت على الحكم بواسطة قوة السلاح والأساليب البوليسية، وكل من يخالف هذه الأحكام يصبح مجرم ويستحق العقاب فيما يتعلق بالقوانين الجزائية.
وحيث ان بعض الأنظمة الحاكمة تسلمت السلطة والحكم تحت قوة السلاح ورغم انف الشعوب المغلوبة على أمرها فان ما تصدره من أوامر وتشريعات يمثل قانون ملزم بغض النظر عن الهدف الذي يسعى إليه القانون سواء كان ينسجم مع مطلب الشعب أو لا ينسجم، لذلك فان هذه الأنظمة حينما تسعى إلى ترسيخ قواعد سلطتها تتبع شتى الوسائل، ومنها فرض القوانين الجائرة بحق الشعب وتخلق أفعال جرمية تحد من حرية المواطن وتضع العقوبات على ابسط الأفعال التي تعتقد بكونها تهدد سلطتها، وتعمل بشكل مستمر وحثيث على جعل المواطن في محل الاتهام وخلق مجرمين وهميين دون ان يرتكبوا أي جريمة من اجل خلق مواطن مهزوز خاضعة للمسائلة القانونية ومركزه القانوني ضعيف من تاريخ العراق الحديث، وخصوصا في ظل فترة حكم النظام السابق حيث شرعت الكثير من القوانين الجائرة والتي لم يكن الهدف منها سوى الضغط على المواطن ووضع العراقيل بوجهه حتى لا يتمكن من التعبير عن وجهة نظره تجاه القضايا والأوضاع السائدة في حينه، ولم تقتصر هذه القوانين على فئة دون أخرى بل طالت هذه القوانين جميع مناحي الحياة ومنها قضايا الأحوال الشخصية للأفراد والقطاع الاقتصادي والتربوي وغير ذلك.
ثالثا: موضوع القانون
يكون القانون احيانا وسيلة من وسائل الفساد حينما يعبر عن وجهة نظر الأنظمة الدكتاتورية، وذلك عندما يستغل من قبل أنظمة الحكم الفاسدة والشمولية ويقمع بموجبه الشعب فيسعى المشرع الى خلق جرائم عن أفعال أصلها مباح، ولكن من اجل وضع المواطن في محل الاتهام وإضعاف مركزه القانوني، مما يدعو الفرد الى التحايل على هذه النصوص بشتى الوسائل واغلبها تكون غير مشروعة، واهمها جرائم الرشوة والتزوير وانتحال الصفة والسرقة والاختلاس وسواها، ومن الأمثلة على ذلك حينما أصدر مجلس قيادة الثورة المنحل قراره المرقم 666 لسنة 1980 الذي اسقط بموجبه الجنسية العراقية عن بعض العراقيين اضطر اغلبهم إلى انتحال أسماء أخرى أو استصدار وثائق غير صحيحة بواسطة الرشوة وشراء الذمم للموظفين القائمين على الوظائف ذات العلاقة، كما إن في وجود نص المادة 136/ب من قانون الأصول الجزائية مثال واضح على مساهمة القانون في نشر الفساد، اذ يتحصن الموظفون المفسدون خلف نص الفقرة (ب) من المادة (136) من قانون أصول المحاكمات الجزائية، ويمنعون القضاء من أن يطلهم أو يحاسبهم، تحت ذريعة عدم إعطاء الإذن من قبل الوزير المختص لغرض الإحالة إلى المحاكم المختصة.
خصوصا بعد إن سارت حملة مكافحة الفساد الإداري في العراق، بخطوات متسارعة، حيث تم إجراء التحقيق مع أعداد كبيرة من الموظفين المتهمين بالقيام بإعمال تخل بواجبات الوظيفة أو الثقة المالية أو جرائم اختلاس وسواها من الجرائم التي تقع تحت طائلة المسائلة القانونية والمختصة بها مفوضية النزاهة. فقد ظهر عائق بوجه إكمال المحاكم لإعمالها المتصلة بالموظفين المتهمين بالجرائم المتعلقة بالفساد الإداري والمالي، المتمثل بإعادة العمل بالمادة 136/ب من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل، حينما أصدرت الحكومة المؤقتة برئاسة الدكتور أياد علاوي الأمر رقم 14 لسنة 2005، وبتوقيع نائب رئيس الوزراء في حينه الدكتور برهم صالح الذي قضى بإعادة العمل بتلك المادة التي تستوجب (استحصال إذن الوزير عند إحالة الموظف على المحاكمة في جريمة ارتكبت أثناء تأدية وظيفته الرسمية أو بسببها إلا بأذن من الوزير التابع له)، مما قيد المحاكم من الاستمرار في إجراءاتها القانونية حيث امتنع الكثير من الوزراء من منح الإذن بإحالة بعض الموظفين إلى المحاكم وكانت هذه الصلاحية تمارس بشكل انتقائي فتعطى للبعض وتمنع عن البعض الآخر، وهذه بعض من عشرات الأمثلة التي تدل على ان موضوع القانون يمثل أحيانا عامل مساعد في نشر الفساد.
رابعا: التطبيقات القضائية
بعض القوانين التي تنظم العلاقات داخل المجتمع تحكمها بقواعد قانونية ظاهرها المصلحة العامة إلا أن واقعها التطبيقي يساهم في انتشار ظاهرة الفساد ومنها وضع القيود، من باب الوصاية على المواطن وافتراض النقص فيه، وجعله دائما محل ريبة وشك وعليه ان يثبت صحة قوله وصدق ادعائه وان يقدم الأدلة على ذلك، مما يدعوه أحيانا إلى الالتفاف والاحتيال بمساعدة المفسدين من الموظفين او العاملين في الوظائف العامة وبدون استثناء لنوع معين من هذه الوظائف إذ نجد المفسد يكون موجود في اغلب الوظائف حتى وان كان لا يشكل نسبة كبيرة في عدد العاملين فيه، واضرب مثلا في ما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية في عقود الزواج، و ما ورد في الفقرة (5) من المادة 10 من قانون الأحوال الشخصية النافذ رقم 188 لسنة 1959 المعدل التي تنص على ما يلي (يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة اشهر، ولا تزيد على سنة، أو بغرامة لا تقل عن ثلاثمائة دينار ولا تزيد على آلف دينار، كل رجل عقد زواجه خارج المحكمة، وتكون العقوبة الحبس لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات، ولا تزيد على خمس سنوات، إذا عقد خارج المحكمة زواجا آخر مع قيام الزوجية). ففي نص هذه الفقرة!
نجد إن المشرع العراقي قد جعل من الزوج الذي يتزوج خارج المحكمة محل للاتهام ويخضع للمسائلة القانونية ويكون مجرماً إذا أدين بارتكاب هذه المخالفة. لكن هل يبطل هذا النص عقد الزواج الذي تم خارج المحكمة؟ الجواب لا يؤثر ولا يبطل العقد ويكون العقد صحيح ويرتب أثاره الشرعية وإنما يخلق حالة من الإطالة والتعقيد تجاه المواطن وانشغال القضاء في أمور لا تشكل خطراً على المجتمع وبعيدة عن ساحة القضاء وان عقوبة الغرامة لا تكفي لثمن الأوراق التي تستهلك لتدوين الأقوال وكتابة المخاطبات، بالإضافة إلى أن أسباب وضع هذه الفقرة في حينه كانت لدوافع سياسية يسعى من خلالها واضع النص إلى جعل المواطن محل اتهام ومتابعة ومراقبة وذلك تعبيراً عن فلسفة النظام القائم آنذاك وإنما خلق أجواء وبيئة حاضنة ومنتجه للفساد الإداري ومنح الفرصة لضعاف النفوس أن يبتزوا المواطن عند مثولهم أمامهم بصفة متهم.
لذلك ومما تقدم أرى إن القانون يساهم أحيانا وبشكل كبير في نشر الفساد الإداري والمالي، مما يلزم الجميع الالتفات إلى ذلك الأمر، ومراعاة الدقة في اختيار الجهاز التشريعي وأعضاء السلطة التشريعية لأنهم سيكون المشرعون، فان كان الاختيار صائب وموضوعي سنحصل على قوانين تراعي المصلحة العامة قبل المصلحة الشخصية او الخاصة، أما إذا كان الاختيار بخلاف ذلك فسنحصد ثمارا فاسدة تشكل عبئا على الحياة العامة وتكون ثقلا على كاهل المواطن ومسعى غير محمود نحو الإفساد.
اضف تعليق