ذكرت معاجم اللغة العربية أن الصلاح ضد الفساد، وأصلحه ضد أفسده، وقد أصلح الشيء بعد فساده. أما فسد فمعناها تلف، خرب، أصابها الخلل. لذلك عندما يقال صلحت حاله فإنها تعني، عادت إلى صوابها أو إلى حالتها الأولى، وأزيل منها الخلل والعطب والفساد.
فالإصلاح، بهذا المعنى هو إعادة بناء أو إعادة حالة معينة أصابها الخلل والإعوجاج والتعطل أي الفساد، إلى طبيعتها السابقة. لكن القضية الجوهرية هنا هي أن الحالة السابقة هذه لا تعني بالضرورة أنها سليمة، صحيحة، كاملة، إلا إذا كانت تمثل رسالات سماوية وأحكام دينية ثابتة، كما بين ذلك الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في إحدى خطبه بقوله:" اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن نرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك".
على هذا الأساس فإن الذي يعنينا في هذه المقالة هو الجذور الفكرية لهذا الفساد، وهل أن الإصلاح بالمعنى الذي ذكرناه يفي بالغرض المطلوب، وهو منع الفساد أن يتكرر مرة ثانية؟ لكن قبل هذا وذاك لابد من المرور على معنى الفساد الإجرائي العملي، الذي يبدو أنه قد تغير وتشعب مع الزمن، إذ أصبح صعب التعريف والتحديد، بسبب أن الفساد التقليدي الذي من مظاهره السرقة من المال العام والغش والكذب والتزوير والتحايل والرشوة والابتزاز والهدايا، قد دعمته التكنولوجيا الحديثة وثورة المعلومات، فتعقدت أساليب الكشف عنه.
فضلاً عن ذلك فإن الفساد التقليدي قد توسع وانضم إليه الفساد السياسي الذي من آثاره الحصول على مكاسب سياسية، وبالتأكيد الحصول على مكاسب مادية، وبالنتيجة الإضرار بالمسيرة الديمقراطية. كما أنضم إليه ايضاً الفساد الاجتماعي متمثلاً بأفعال مثل التعصب الفكري، والتحيز، والنفاق، والعدوانية، وسيادة لغة التهديد، واعتماد سياسة تبرير الأخطاء والدفاع عن الفشل.
ويلخص أحد الباحثين تعريف الفساد بقوله: إن الفساد هو إساءة استخدام المنصب العام أو السلطات أو الموارد لتحقيق منافع خاصة. لكن الفساد يمكن أن يشمل العديد من حالات غير تقليدية، على سبيل المثال: وجود جهاز أو حزب مسيطر في الخفاء على دفة الأمور، بيع المناصب وشراءها، عدم مساءلة القيادات السياسية وغير السياسية، عدم الكشف عن الذمم المالية للمسؤولين، عدم التبليغ عن حالات الفساد.
أما الأسباب التي تقف وراء جميع أنواع الفساد والانحرافات، فهي حسب ما نرى، تعود إلى جذور فكرية مكتسبة، تتمثل في قصور أو خلل في الآلة العقلية المعرفية للإنسان. وهذا الضعف العقلي وما يتبعه من محدودية في تفكير هذا الإنسان ليست حالة طارئة، إنما هي جزء لا يتجزأ من تكوينه وبنائه، الذي اكتسبه من الوسط الاجتماعي الذي يحيط به. لذلك فإن الفساد يتشكل من قطبين أساسيين متداخلين متفاعلين: الوسط الاجتماعي، وقياداته الأساسية (السياسية والاجتماعية والإدارية وغيرها)، وبما أن القيادات هم نتاج وقتهم ونتاج مجتمعهم، فإن الفساد يـُعد سبباً ونتيجة في الوقت ذاته. ففساد القيادات هو سبب فساد المجتمع، وهو بذات الوقت نتيجة فساد المجتمع. وفي المقابل الفساد في المجتمع هو سبباً لفساد القيادات، وهو نتيجة أيضاً لفساد هذه القيادات.
وذلك يضعنا أمام عملية ارتدادية دورانية للفساد الذي يتطلب إصلاحه عملية دورانية أيضاً: صلاح القيادات وصلاح المجتمع، التي رسم حدودها الإمام علي عليه السلام بقوله: فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية. لكن عملية الإصلاح هذه ليست يسيرة بزماننا الحالي، بسبب هذه الدورانية أولاً، وثانياً بسبب التراكمات الهائلة من المفاهيم الراكدة التي تحتل عقولنا، فضلاً عن تقليدية التفكير وعطالته وجموده وتصلبه.
أضف إلى ذلك الافتقار الى الابداع الذي يمكن به مقاومة النمطية الفكرية والأشكال السائدة من التفسير والنظريات. وثالثاً بسبب ما يعانيه المجتمع من تفكك وانقسام وما يمر به من تغيرات سريعة. لذلك فالإصلاح هنا لا يكفي، لآنه يعني العودة إلى الوضع السابق الذي هو بحاجة إلى مراجعة وتصحيح. وطالما كان هناك قصور عقلي لدى الانسان، فمن المؤكد أن تكون القوانين والبرامج التي يضعها، قاصرة غير دقيقة، ومن ثم تكون تطبيقاتها ناقصة غير سليمة.
فنحن بحاجة إلى عملية إصلاح تستند إلى تغيير وتطوير مستمر، ينبغي أن يكون أساسها تربوياً متدرجاً تصاعدياً تفاعلياً تكاملياً بين القيادات والمجتمع، على أن يسودها التزاماً كاملاً بالقيم الدينية والأخلاقية ومبادئ الديمقراطية، والوفاء للواجب والشعور بالمسؤولية.
وخلاصة القول إن تقليل الفساد والقضاء عليه يتطلب الكثير من إجراءات الإصلاح والتغيير نذكر منها: البحث عن المخلصين من الكفاءات، إنشاء مدرسة للقيادات، تعدد منابع المتابعة والمراقبة، تكوين رابطة للعلماء والمفكرين المخلصين.
اضف تعليق