الاجواء السياسية والاجتماعية المتوترة في العراق بسبب تراكم الاخطاء الفادحة وما سببت من أزمات خانقة، تمثل فرصة للإصلاح والتغيير مع تشخيص مواطن الخلل، فمن دونها لا يمكن معالجة أمراض خطيرة مثل الفساد المالي والاداري، او حالة الاسئتثار بالسلطة. أما أن يكون المشهد، مزيداً من التأزيم والتوتر يُضاف الى التداعيات الموجودة، فان النتيجة لن تكون سوى خلق أزمة داخل أزمة، ومزيداً من التعقيد، بما يلحق الضرر والخسارة بالجميع دون استثناء.
فنحن نتحدث عن المسؤول الحكومي المتهم بالتقصير والخيانة في أي مهمة يتولاها، لاسيما تلك التي تمسّ الحياة اليومية للمواطنين، مثل الماء والكهرباء والتعليم والصحة والامن، ونكون محقين بتوجيه الادانة المباشرة مع الأدلة والبراهين القاطعة، بما يجعله امام الامر الواقع، وتجبره على الاعتذار والتعويض عن الخسائر، وغيرها من الاجراءات ضمن السياق القانوني او العرف الاخلاقي، ولكن اذا سحبنا هذه الادانة على متبنياته الفكرية او العقائدية او حتى انتمائه القومي او العرقي، فهل نتمكن من الحصول على حقوقنا كما الحالة الآنفة الذكر؟.
نعم؛ ان الاختلاسات بملايين الدولارات والادارة الفاشلة والمحسوبية والمحاصصة وغيرها من مظاهر الفساد والفشل، من نتاج حب السلطة والطموح اللامشروع نحو الإثراء على حساب الآخرين، وهي صفات خاصة بالأفراد وليس الجماعات، فما العلاقة بين المبهور بالمناصب والسيارات الفارهة، والمتفاجئ بملايين الدولارات بين يديه، وبين انتمائه الديني؟.
أما ان نزيل الشخص السيئ من منصبه ثم نهدم الدار التي يسكنها على رأسه – مثلاً- او نردم القاعدة الفكرية والعقائدية التي يقف عليها، فهذا بعيد كل البعد عن أي عملية اصلاحية، او أن نطالب بسياسي "من دون هوية" تبين فكره وعقيدته، فهذا هو الآخر مؤشر خلل في العملية الاصلاحية او عدم فهم لأصل المشكلة، فيكون التعجّل في اصدار الاحكام كما يحصل مع الفكر الاسلامي الداعي الى نظام سياسي واجتماعي قائم على منظومة القيم الاخلاقية والاحكام المتطابقة مع الفطرة والعقل.
هذا الفكر الذي قدم الى الساحة باقة من الاطروحات والنظريات من لدن علماء دين كبار في العراق، يقف في طليعتهم سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- وعلماء آخرين، يمتد بجذوره في عمق التاريخ الاسلامي ويتصل بتجارب حضارية عظيمة، تتمثل في النظام الذي شيده النبي الأكرم وأمير المؤمنين، صلوات الله عليهما. وقد أجمع المؤرخون والمفكرون والعلماء من مختلف الطوائف والديانات على نجاح تلك التجربة، يبقى ان تكون هنالك محاولات جادّة لنقل هذه التجربة حيّة نابضة الى الاجيال القادمة، وهذا تحديداً ما سعى اليه أمثال الامام الراحل، وعجز عنه آخرون.
وقد حذر الامام الراحل في عديد مؤلفاته الخاصة بالسياسة والحكم، ومنذ عقود من الزمن مما نشهده اليوم من تحامل غير طبيعي على النظرية الاسلامية في هذا المجال. لذا فانه أكد غير مرة على أن السياسة ليست حكراً على السياسي، كما انها ليست محظورة على المتدين او عالم الدين، بل وعدّ هذا التصور من مخلفات الاستعمار في بلادنا الاسلامية، لإبعاد عالم الدين عن السياسة والحكم، ثم الترويج لما يدعيه البعض بـ "حرمة التدخل في السياسة"، في حين يؤكد العلماء والمفكرون أن الدين – اساساً- سابق على السياسة في ادارة شؤون الحياة والانسان بالشكل الصحيح، بدليل الرسالات السماوية التي نزلت على الاقوام السابقة وما تركته من آثار حضارية على الانسانية. وهذه الحقيقة اكدها سماحة الامام الراحل في كتابه "فقه السياسة" لان "الدين داخل في تركيبة الأمم والشعوب بما لا يمكن فصلهما عنه"، ولذا "على الانسان معرفة السياسة من خلال معرفته الدين". لان الدين – بالحقيقة- يمثل إضاءات مشعة داخل النفوس، فيما السياسة تمثل الوسيلة للاستفادة من هذه الاضاءات او النور الذي يهدي الانسان الى سواء السبيل. وإذن؛ فان المشكلة تبقى في شكل الوسيلة وكيفية التعامل معها، وليس في اصل النور، وهل يمكن ان نلقي اللوم على النور في الليل البهيم لانه لم يصلنا لنستفيد منه؟ .
ان وجود اشخاص يتسنّمون مناصب كبيرة في الدولة، وقبلها يحملون عناوين دينية او ينتمون الى مدارس فكرية اسلامية او حتى من خريجي الحوزات العلمية، وقد ارتكبوا الاخطاء القاتلة، لا يعني بأي حال من الاحوال، استهداف هذه العناوين لمجرد ان هؤلاء يحملونها. وهنا نسأل: هل كانت قليلة الجرائم والكوارث التي حلّت بالامة طيلة القرون الماضية التي تخللت دول حكمت وسادت ثم بادت، ثم الدولة الأموية والدولة العباسية، وحتى الدولة العثمانية، فبعد كل ما جرى وحصل، هل تحدث أحد من المؤرخين والعلماء والمفكرين عن وجود خلل ما في ذات النظام الاسلامي الذي مكّن أولئك الحكام لأن يرتكبوا كل تلك الفضائع والجرائم؟ لقد طوى الزمن كل أولئك الحكام كما طوى سيرتهم ونهجهم في الحكم ومحتهم الاجيال من الذاكرة، فيما بقي الاسلام متجدداً طرياً في الاذهان ما يزال يحمل القابلية على التكيّف ومواكبة التطورات الانسانية والعلمية في الحياة. ولا أدلّ على أول تجربة ديمقراطية في البلاد الاسلامية منذ قرون، وحصلت في ايران أوائل القرن العشرين، والتي مرت من أروقة الحوزة العلمية ونظر لها علماء دين مجاهدون أمثال الاخوند الخراساني، ودفع آخرون أرواحهم ثمناً لها، مثل الشيخ فضل الله النوري الذي دعا الى الديمقراطية المطابقة للشريعة الاسلامية. فكان أن دبّر له الشيوعيون الايرانيون مكيدة اتهموه فيها بانه عدو للشعب وحقوقه وحريته، او انه يناصر الملك وسلطاته وغير ذلك... والنتيجة كانت شنقه حتى الموت أمام انظار الناس وسط طهران.
ولمن يبتغي الحقيقة؛ فان الاسقاطات التي نشهدها في العراق وحتى في بلدان اخرى جرب فيها الاسلاميون، الحكم فيها، انما صدرت عن اجتهادات سياسية من بناة افكار أولئك الاسلاميين انفسهم، ولم تكن نسخة مطورة من النظام الاسلامي الذي أثبت نجاحه امام العالم إبان حكم النبي وأمير المؤمنين، عليهما السلام. من هنا؛ فان الحل الذي يخرج الامة من أزماتها الخانقة، وايضاً يعيد اليها الثقة بتجاربها التاريخية، بما يعني اصابة اكثر من عصفور بحجر واحد، وهذا يحتاج الى مبادرة وجهد من نوع خاص لتجاوز المحنة وإطفاء نار الفتنة التي تكاد ان تلتهم الجميع، من هذه الخطوات؛ إقامة ورشات عمل مشتركة بين الحوزة العلمية والجامعات للتوصل الى نماذج عملية للادارة والحكم تناسب الظروف وتخدم الانسان. كما يجدر بالباحثين والمفكرين إجراء مسح تاريخي للتجارب الناجحة في دور علماء الدين في صنع القرار وتقويم الحكام، ثم إعادة تدوين البرنامج السياسي المتكامل لأمير المؤمنين بشكل علمي من شأنه ان يتحول الى منهج دراسي او مصدر تشريعي وقانوني يعود اليه الساسة فيما يشكل لديهم من قضايا في مختلف مجالات الحياة.
ولا يخفى على المتابع أن التجربة الحالية في العراق، تمثل فرصة تاريخية لا تثمّن ابداً في تقديم الصورة المصغرة لنظام حكم يستقى قوانينه واجراءاته من الدين والرسالة. هذه التجربة التي تحاول اطراف عديدة تغييبها عن الاذهان لئلا يتحسس أحد بوجودها الى درجة إلغائها من الوجود، وكأن شيئاً لم يكن، وكأن الكوارث والويلات التي حلّت بالعراق والعراقيين طيلة قرن من الزمن، لم تكن بسبب العداء بين رجالات السلطة ومن يقف خلفهم، وبين الهوية الدينية للشعب العراقي.
اضف تعليق