يبني بعض رجال الدولة ممن يتسنّمون مناصب إدارية وتنفيذية، مثل الوزير او المدير فضلاً عن الرئيس والزعيم، آمالهم في الحفاظ على الكرسي والطاولة من خلال بذل الهدايا والعطايا العينية والمالية لهذا وذاك، مما يُطلق عليه اليوم بـ "المال السياسي" الذي ينتهي الى شراء المواقف والذمم، والفائدة تتمثل احياناً في الصمت على مظالم وانتهاكات، واحياناً اخرى في الترويج لإنجازات وهمية، او تضخيم اعمال بسيطة ثانوية. ولكن تجارب التاريخ والاجيال، تثبت لنا عدم وجود حكام استقام لهم الامر من خلال هذا المال. فعندما تهب العاصفة يبقى الحاكم وحده، ولا أثر للمصفقين والمطبلين.
هذه المعادلة يكشفها أمير المؤمنين، عليه السلام، منذ الايام الاولى من حكمه عندما دعاه بعض المقربين – ربما حرصاً منهم- لاستباق محاولات معاوية لشراء المواقف والذمم بالأموال، فجاء الجواب القاطع والحازم: "أتأمروني أن أطلب النصر بالجور...."؟! ثم قال: "...ولم يضع إمرؤ ماله في غير حقه وعند غير أهله إلا حرمه شكرهم وكان خيره لغيره".
لو راجعنا التجربة السياسية في تلك الحقبة المريرة من تاريخنا الاسلامي، لوجدنا التجسيد الحيّ لما تنبأ به الامام علي، عليه السلام، إذ ليس فقط لم يحصل معاوية على الشكر من بائعي الضمير والذمة، إنما تنكروا له وأظهروا حقيقة مواقفهم منه بعد انتفاء الحاجة، وعلى رأسهم عمرو بن العاص، الذي غرف ما غرف، من الامتيازات والاموال، لكن في لحظة تقاطع المصالح أظهر الاخير حقيقة من موقفه من معاوية، وانه انما مارس النفاق في الوقوف الى جانبه ضد الامام علي، عليه السلام. وكل ما فعله من مكائد ودسائس، إنما لتحقيق مصالحه الشخصية هو، وليس معاوية، وقد سجل التاريخ الشاهد على ذلك، بقصيدته اليائية الشهيرة.
فما الذي يجعل المال السياسي غير ذي فائدة حقيقية، وينعكس سلباً على صاحبه؟.
هنالك سببين أساس من جملة اسباب:
الاول: الشعور العارم لدى الغالبية من الناس، لاسيما الشريحة الوصولية في المجتمع، بأن ما يغدقه الحاكم من أموال، ليست من جيبه الخاص، وإنما هي من أموال الشعب، فالشريحة الواسعة التي تعفّ نفسها الاقتراب من هذا المال، لاعتقادها أنه مشوب بالحرام، بينما الشريحة المتزلفة هي الوحيدة التي ترى "الحياة فرص" فلا تجد غضاضة من الحصول على السيارات والعقارات والامتيازات من الحاكم.
أما السبب الثاني: فهو اختلاف الاهداف والغايات. وهذا الاختلاف يتجلّى في صور متعددة؛ فاذا كان الحاكم يحمل طموحات سياسية مجنحة وأحلام كبيرة بالبقاء فترة أطول في السلطة، وبناء شخصية متعالية تفرض نفسها على الصعيد الداخلي والخارجي ايضاً، فان الباحثين عن حفنة من الاموال والامتيازات، إنما يريدون – على الاغلب- التخلّص من عقد الحرمان فترات طويلة من الزمن، من السكن اللائق والسيارات الفارهة والمكاتب الفخمة، بل وايضاً من الطلّة البهية للشخصية التي تحمل اسم المدير العام او الرئيس او المحافظ او الوزير وهكذا... وربما يكون الكثير ممن وصلوا حديثاً الى أروقة الحكم، لم يلمسوا رزمة من فئة (100) دولار في حياتهم، وها هم يتلاعبون بمجموعة رزم وليس رزمة واحدة.
ومن صور الاختلاف في الرؤى ايضاً؛ ما تفرضه احياناً الانتماءات العشائرية والقومية والطائفية التي ربما تستفحل لأسباب عديدة، رغم أن تغييبها من قبل صاحبها، وهو ما قد يؤدي في لحظة ما، الى التخلّي عن كل شيء ونفض اليد من ذلك الحاكم والتنكّر فوراً مما أعطى وأغدق.
هذه الحالة الشاذة التي نراها منتشرة سرطانياً في بلداننا دون علاج ناجع لها، هي التي تقف مع جملة عوامل اخرى ، وراء تمزق البلاد وزجّه نحو مستنقع الازمات والاضطرابات السياسية والاجتماعية، وتجعل من الأفق السياسي ضيقاً حرجاً لا يكاد يُرى فيه الأمل بالاستقرار. والذي يدفع الثمن وحده الشعب، سواءً من استفاد من تلكم العطايا و"المال السياسي" او لم يستفد وكان من المتعففين. فالنتيجة واحدة، وهي هدر المال العام والثروة الوطنية، لاسيما تلك التي تتسم بالمحدودية مثل النفط والغاز.
فاذا كانت ثمة نوايا صادقة من بعض المسؤولين في جهاز الحكم، ممن يمتلكون لانفسهم الذمة والضمير، بانقاذ البلاد من ازماتها الخانقة، ما عليهم إلا إبعاد "المال السياسي" عن مسار العملية السياسية وعملية بناء الدولة الصالحة، وهذا يصدق على هذه الدولة وتلك من دولنا التي تتخبط في المشاكل التي ليس لها أول ولا آخر، لإنقاذ البلاد والعباد من الخسارة الفادحة والسقوط في وادي الافلاس والفقر الى مستوى البلاد التي يهددها الجوع والمرض في العالم.
اضف تعليق