ارتبط الفساد بالدولة في العراق سياسياً واقتصادياً، حيث لم يشهد العراق نظام ديمقراطي راسخ، كما لم يشهد حرية اقتصادية كافية، فكانت النتيجة زيادة الفساد بالتزامن مع هيمنة الدولة على السياسة والاقتصاد. اتخذت الدول الديمقراطية واقتصاد السوق في آن وحداً، أساساً لنظامها السياسي والاقتصادي، سيكون الفساد في أدنى مستوياته...
صحيح لا تخلو دولة من دول العالم من الفساد، لكن تختلف نسب الفساد من دولة لأخرى حسب عدّة عوامل من بينها العامل السياسي والاقتصادي. أي أن الدول التي تتخذ الديمقراطية أساساً لنظامها السياسي هي أقل فساداً من الدول التي تتخذ الديكتاتورية أساساً لنظامها السياسي، وكذا الحال بالنسبة للدول التي تتخذ نظام السوق بدلاً من التخطيط أساساً لنظامها الاقتصادي. وإذا ما اتخذت الدول الديمقراطية واقتصاد السوق في آن وحداً، أساساً لنظامها السياسي والاقتصادي، سيكون الفساد في أدنى مستوياته، على أن يكون تطبيقهما سليماً وراسخاً لا عشوائياً وشكلياً كما هو الحال في العراق.
وإذا ما نظرنا لمؤشر الديمقراطية ومؤشر الحرية الاقتصادية من جانب ومؤشر مدركات الفساد من جانب آخر وفي آنٍ واحد سنجد، بشكل عام؛ إن أغلب الدول التي تحتل مراتب متقدمة في مؤشر الديمقراطية والحرية الاقتصادية، تحتل مراتب متأخرة في مؤشر مدركات الفساد، بمعنى أنها أكثر شفافية من الدول التي تكون دكتاتورية وتفتقد للحرية الاقتصادية.
والعكس صحيح، أي سنجد أغلب الدول التي تحتل مراتب متأخرة في مؤشر الديمقراطية والحرية الاقتصادية، أي أنها ديكتاتورية وتفتقد للحرية الاقتصادية؛ تحتل مراتب متقدمة في مؤشر مدركات الفساد، أي أنها أكثر فساداً من الدول التي تتمتع بديمقراطية راسخة وحرية اقتصادية كافية.
مؤشر الديمقراطية
حيث تقع كل من النرويج وأيسلندا والسويد ونيوزيلندا وكندا في الربع الأول من مؤشر الديمقراطية في عام 2020 وفي الوقت ذاته تقع كل من تشاد وسوريا وجمهورية أفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية وكوريا الشمالية الربع الأخير من المؤشر ذاته.
مؤشر الحرية الاقتصادية
كما وتقع كل من سنغافورة وهونك كونك ونيوزيلندا واستراليا الربع الأول من مؤشر الحرية الاقتصادية في عام 2020 وفي الوقت ذاته تقع كل من جمهورية الكونغو الديمقراطية وإيران وتركمانستان وكوريا الشمالية في الربع الأخير من هذا المؤشر.
مؤشر مدركات الفساد
حيث تقع كل من نيوزيلندا وسويسرا وسنغافورا والسويد والنرويج وكندا واستراليا وهونك كونك في الربع الأول من مؤشر مدركات الفساد العالمي في عام 2020، أي أنها أقل فساداً؛ وفي الوقت ذاته تقع كل من تركمانستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية وكوريا الشمالية في الربع الأخير من المؤشر ذاته، أي أنها أكثر فساداً.
وإذا ما نظرنا للدول التي تقع في الربع الأخير (أكثر فساداً) من مؤشر مدركات الفساد سنجد إنها تقع في الربع الأخير من مؤشر الديمقراطية ومؤشر الحرية الاقتصادية، بمعنى هناك علاقة طردية بين الفساد من جانب والدكتاتورية وانعدام الحرية الاقتصادية من جانب آخر.
حيث تقع أفغانستان والكونغو وتركمانستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية وكوريا الشمالية وليبيا والسودان وفنزويلا واليمن وسوريا والصومال وجنوب السودان في الربع الأخير من مؤشر مدركات الفساد (أكثر فساداً) وأغلبها يحتل مراتب متأخرة في مؤشر الديمقراطية والحرية الاقتصادية، وكما أسلفنا أعلاه.
تكشف المؤشرات أعلاه عن وجود علاقة وثيقة مترابطة بين الفساد والدولة بشكل عام، وتكون أكثر ترابطاً في الدول الهشة، اللا مؤسساتية؛ والتي تعتمد على النفط بشكل كبير كالعراق.
متلازمة الفساد والدولة في العراق
ارتبط الفساد بالدولة في العراق سياسياً واقتصادياً، حيث لم يشهد العراق نظام ديمقراطي راسخ، كما لم يشهد حرية اقتصادية كافية، فكانت النتيجة زيادة الفساد بالتزامن مع هيمنة الدولة على السياسة والاقتصاد.
وبصرف النظر عن الحُقبة التي سبقت تأسيس الدولة الحديثة عام 1921، حيث كانت حقبة استعمارية طويلة، أثرت بشكل وآخر على ما بعد التأسيس ولحد الوقت الحاضر.
السياسة
حيث ساد بدايةً النظام الملكي ولم يستمر طويلاً حتى تم إسقاطه في ثورة 1958 وإقامة النظام الجمهوري محله، ولم يعرف هذا النظام الاستقرار بل كانت الانقلابات سمته الرئيسة، واستبد به أخيراً صدام حسين حتى تم إسقاطه على يد الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003، ثم بدأت حقبة الديمقراطية.
حيث بدأت الديمقراطية بعد عام 2003 ولم تعطي نتائجها بالشكل المرغوب وذلك لحداثة التجربة وعدم رسوخها إضافةً لسوء تطبيقها، حيث تم إسقاط مؤسسات الدولة بالكامل من جانب وتم تطبيق الديمقراطية بشكل مفاجئ دون الإعداد المسبق لها.
هذا ما جعل العراق يحتل المرتبة 118 من بين 167 دولة عام 2020 في مؤشر الديمقراطية ضمن الأنظمة التسلطية على الرغم من تبنى الديمقراطية بعد 2003 كما أسلفنا أعلاه.
الاقتصاد
كما وانتهج العراق نظام التخطيط في الشأن الاقتصادي، منذ خمسينيات القرن المنصرم والذي استمر حتى سقوط النظام عام 2003، حيث يعطي هذا النظام الدولة الملكيّة والتدخل في الاقتصاد وصولاً للهيمنة عليه، وهذا ما حصل بالفعل على أرض الواقع حيث هيمنت الدولة على الاقتصاد برمته ولم يكن للقطاع الخاص إلا دور ثانوي مؤقت.
وتبنى اقتصاد السوق القائم على القطاع الخاص بعد عام 2003 ولكن لم يعطي ثماره بعد، وذلك لتعثر التحول الاقتصادي، حيث لم تنسحب الدولة بعد بل لازالت تمثل عقبة أمام سير القطاع الخاص، خصوصاً مع هيمنتها على الثروة النفطية وعدم تحييد الآثار السلبية للأخيرة على الاقتصاد.
وبسبب عدم توفر البيانات المطلوبة لحساب مؤشر الحرية الاقتصادية بشكل كامل لم يدخل العراق ضمن ترتيب هذا المؤشر، ولكن بسبب ضعف سيادة القانون واستمرار دور الدولة في الاقتصاد على النحو التشغيلي لا الإنتاجي إضافة لضعف الكفاءة التنظيمية لبيئة الأعمال وصعوبة النفاذ للأسواق، فإن مؤشر الحرية الاقتصادية هو في مراتب متأخرة بلا شك.
ونظراً لعدم رسوخ الديمقراطية وتعثر التحول الاقتصادي وضعف الحرية الاقتصادية، يقع العراق في الربع الأخير وبالتحديد في المرتبة 160 من أصل 179 دولة في مؤشر مدركات الفساد لعام 2020.
التوصيات والخلاصة
وبحكم تلازم الفساد مع وجود الدولة ولأجل تقليص الفساد لابُد من العمل على فك هذا التلازم من خلال الآتي:
أولاً: العمل على تنضيج الديمقراطية وصولاً بها لمرحلة الرسوخ، اجتماعياً وسياسياً، بحيث لا تكون القرارات انفرادية من قبل السلطة.
ثانياً: زيادة الحرية الاقتصادية من خلال سيادة القانون وتقليص دور الدولة وتعزيز الكفاءة التنظيمية للعمل والأعمال وحرية النفاذ للأسواق.
والخلاصة، إن نضج الديمقراطية ورسوخها وتعزيز الحرية الاقتصادية كلا الأمرين سيؤديان بلا شك لجعل الفساد في أدنى مستوياته.
اضف تعليق