يفعل الفاسدون في السياسة والإدارة والمال، فهم يفتشون عن أي ثغرة في هذا القانون، أو في هذا القرار، أو في هذه الإجراءات، لتكون منفذا لعمليات فسادهم. فهؤلاء أعرف من غيرهم في أبواب الفساد، فهم أهلها وأصحابها، ويفتشون دائما عن الثغرات القانونية والإدارية التي تسهل عمليات الفساد...
لا تقتصر عمليات مكافحة الفساد أو الحد منه على تشريع قوانين وأنظمة تجرم أفعال محددة، وتعاقب مرتكبيها، وتردع الآخرين، إذ مثل هذه الإجراءات لا شك أنها مطلوبة للحد من ظاهرة الفساد بشتى أنواعه، ولكن لا ينبغي الحديث عن مكافحة الفساد أو الحد منه بمعزل عن متابعة القوانين والقرارات والأنظمة والإجراءات التي تسهل عملية الفساد.
وتدفع باتجاه تعزيزه في تنظيم العلاقات السياسية والاقتصادية والإدارية والمجتمعية، فتلك القوانين والأنظمة والإجراءات والآليات هي المحرك الفعلي لعمليات الفساد الإداري والمالي المستشري في العديد من البلدان، ومنها العراق.
نعم من الجيد أن يكون لكل دولة قوانين خاصة بها لمكافحة الفساد أو الحد منه، ومن الجيد أيضا أن تلتزم الدول بالقوانين الدولية لمكافحة الفساد، وتعمل على ملاءمتها مع القوانين الوطنية في مجال مكافحة الفساد، فالفساد -كما الكثير من الظواهر- لم يعد مقتصرا على بيئته الخاصة، بل يتعداها إلى فضاء أوسع، بحكم التطور التكنولوجي في تنظيم العلاقات الدولية.
إنما تكون مكافحة الفساد أو الحد منه على بعدين: الأول؛ البعد الإيجابي، والمتمثل بتشريع القوانين والأنظمة والإجراءات التي تجرم الفساد وتعاقب عليه، وهي إما قوانين وطنية وإما قوانين دولية. والثاني؛ هو البعد السلبي، والمتمثل في إلغاء أو تعديل القوانين والقرارات والأنظمة والتعليمات والإجراءات الإدارية التي تسهم في تشجيع الفاسدين على اقتراف جرائم الفساد، فهي بمثابة الأدوات التي يستعين بها الفاسدون لتحقيق فسادهم. فالبيت الذي أحكم أهله قفله لا يسيل إليه لعاب السارقين، وأما البيت الذي تركه أهله بلا قفل أو بقفل هزيل هو البيت الذي يكون مطمع السراق وهدفهم.
لا يكفي أن تلتفت الدولة وأجهزتها الرقابية إلى تشريع قوانين محاسبة الفاسدين، وتترك القوانين التي يستغلها الفاسدون في تسهيل إجراءات فسادهم، فقفل باب من أبواب الدار وترك الأخرى مفتحة على مصراعيها لا يعني أن الدار باتت بأمان من السراق، فمن ينوي سرقة الدار يحرص على تفقد الأبواب كلها، ولا يكتفي بالباب الأمامي قط.
هكذا يفعل الفاسدون في السياسة والإدارة والمال، فهم يفتشون عن أي ثغرة في هذا القانون، أو في هذا القرار، أو في هذه الإجراءات، لتكون منفذا لعمليات فسادهم. فهؤلاء -في العادة- أعرف من غيرهم في أبواب الفساد، فهم أهلها وأصحابها، ويفتشون دائما عن الثغرات القانونية والإدارية التي تسهل عمليات الفساد، وتنجزها بطرق قانونية من دون أن تتمكن أجهزة الرقابة ومكافحة الفساد من تتبعهم.
ولهذا؛ فان الدول والهيئات التي تكافح الفساد عليها دائما أن تعيد النظر في قوانينها وأنظمتها وتعليماتها وإجراءاتها التي تساعد الفاسدين على ارتكاب جرائهم، بطرق سهلة وقانونية، بشكل دوري ومنظم، للحد من تكرار الفساد وشيوعه، وإلا فان تشريع قوانين أو تأليف هيئات أو لجان لا يجدي نفعا مؤكدا ما لم ترافقه عمليات مراجعة حقيقية لكل ثغرة قانونية وإدارية يمكن أن يستغلها الفاسدون، فهؤلاء شغلهم الشاغل هو البحث عن منافذ قانونية لارتكاب جرائهم، وهي واحدة من المسائل التي تجعل التحقيق في قضايا فساد صعبة للغاية.
إن مراجعة القوانين والقرارات والإجراءات القائمة، وغلق أبواب الفساد فيها يحتاج إلى رؤية واضحة تتفاعل معها كل أجهزة الدولة التشريعية والقضائية والتنفيذية، كل حسب اختصاصه، ويجري معالجتها تباعا، فهي بمثابة بناء حصن حصين أمام من تسول له نفسه أن يتجاوز على المال العام.
فكل مؤسسة حكومية ينفذ فيها الفاسدون مباشرة أو بالواسطة ينبغي أن تراجع إجراءاتها، وتضيق فيها أبواب الفساد، فمثلا إن كان موظف في هذه المؤسسة يتقاضى رشوة من المواطنين لقاء خدمة حكومية تقدمها هذه المؤسسة مجانا، فان المطلوب من المؤسسة تغيير إجراءات وآليات تقديم الخدمة، مثل أتمته إجراءاتها لتكون متاحة لجميع المواطنين. وإن كانت إجراءات إحالة المشروعات إلى الشركات فيها أبواب تشجع الموظفين وممثلي الشركات على ارتكاب جريمة فساد ينبغي أن تبادر إلى غلقها عن طريق وضع ضوابط وشروط محكمة تعزز مبدأ المساءلة، وهكذا دواليك.
هذا إذا فرضنا أن المؤسسات التشريعية والتنفيذية للدولة عازمة على مكافحة الفساد والحد منه من خلال: إما تشريع القوانين وتنظيم الإجراءات، وإما من خلال تعديل القوانين والإجراءات، أما لو أدركنا أن المؤسسة التشريعية والتنفيذية هي التي تشرع القوانين وتضع الإجراءات التي من شأنها أن تعزز ظاهرة الفساد وترسخها في المؤسسة الحكومية، لتتحول إلى ظاهرة مقبولة إلى حد ما لدى جميع موظفي الدولة ومسؤوليها، والفاسد هو الشخص المؤثر في المؤسسة وعملها وأنشطتها، فالأمر هنا يزداد تعقيدا، ويصعب حله على مستوى المستقبل المنظور.
فهل هناك دولة يمكن أن تشجع ظاهرة الفساد من خلال سن قوانين تحمل في نصوصها ثغرات قانونية ينفذ من خلالها الفاسدون قصدا؟ وهل هناك مؤسسة حكومية تضع إجراءات تشجع الفاسدين على ارتكاب فسادهم قصدا؟
الجواب؛ هو نعم! ومثل ذلك هو وجود قوانين وأنظمة تعطي موظف حكومي راتب شهري كبير في مؤسسة ما مثل وزارة النفط، في المقابل تعطي موظف آخر في مؤسسة ما مثل وزارة البلديات راتب أقل، فمثل هذا التفاوت يدفع الموظفين في وزارة البلديات إلى ابتزاز المواطنين أثناء تقديم الخدمة الحكومية.
ومثل ذلك تشريع قوانين وأنظمة تعطي فئات محددة من المسؤولين الحكوميين المنتخبين أو المعينين امتيازات كثيرة، تحت مبررات كثيرة، وتمنع عن المواطنين الآخرين أي حقوق من شأنها أن تعزز رصيدهم المالي، فان مثل هذه القوانين تدفع المواطنين لأن يكونوا بالقرب من هؤلاء المسؤولين أو يكونوا هم مسؤولون حكوميون حتى يتقاضوا هذه الامتيازات الحكومية.
ومثل ذلك تشريع قوانين تفضل مواطنين على مواطنين آخرين في المنصب، أو المال، أو المحاباة فان مثل هذه القوانين تدفع الآخرين للبحث عن ثغرات قانونية ليكونوا في مجموعة المواطنين الذين تحابيهم الدولة، كما في المواطنين المتحزبين المنتمين إلى أحزاب تقود السلطة، فهؤلاء في العادة يحصلون قبل غيرهم على وظيفية حكومية أو مقاولة مالية لا لشيء إلا لأنهم أعضاء في الحزب الحاكم أو الأحزاب الحاكمة، أو لأنهم مقربون من هذا المسؤول أو ذلك.
ولذلك؛ فان تأثير وجود قوانين وقرارات وأنظمة تساعد على الفساد وتشجع عليه، على نحو من الأنحاء، لا يقتصر تأثيره على منظومة المال، ولا على منظومة الإدارة، وعلى منظومة السياسة، إنما يتعداه إلى المنظومة الأخلاقية والاجتماعية، فمثل هذه القوانين لا تخرب الاقتصاد والمال فقط، بل تخرب الأخلاق والقيم، فتكون قيم الإخلاص والنزاهة والشفافية قيم غريبة لا تجد من يحملها، وحتى من يحملها يرمى بالفساد، لأن المنظومة كلها فاسدة. فعلى سبيل المثال دائما ما يتهم الموظفون في الدولة على أنهم فاسدون ومستفيدون، بينما هناك موظفون وإداريون قمة في النزاهة والأخلاق، ولكن هم قلة، غير مؤثرة، ولا معروفة، لدى الناس عامة.
نخلص من ذلك إلى أن مكافحة الفاسد أو الحد منه لا تجري إلا من خلال تنفيذ الخطوات الآتية: -
1. تشريع قوانين وأنظمة وقرارات، وتنظيم الإجراءات والآليات الإدارية التي تعمل بها المؤسسات الحكومية، وتقدم من خلالها الخدمة العامة للمواطنين تحد من ظاهرة الفساد أو استفحالها.
2. إلغاء القوانين والأنظمة والقرارات أو تعديلها، وتحسين الإجراءات والآليات الإدارية التي تكون سببا في انتشار الفساد، وتفتيش مضامينها ونصوصها، وسد الثغرات القانونية التي يستغلوها الفاسدون في مباشرة الفساد وإدامته.
3. ابتعاد السلطات التشريعية والتنفيذية عن تشريع أو إصدار قوانين وقرارات وإجراءات تعزز مبدأ التمييز بين المواطنين عامة أو بين الموظفين تحديدا، وتشجع على ارتكاب جرائم الفساد تحت مبررات عدم العدالة الاجتماعية أو الوظيفية.
4. ينبغي أن تردم الدولة التي ينتشر فيها الفساد الفجوة بين قوانينها الوطنية وقوانين مكافحة الفساد الدولية، بحيث تحقق نوعا من الانسجام بين القانون الوطني والقانون الدولي من أجل أن تتمكن من السيطرة على الفساد داخليا وخارجيا.
اضف تعليق