"فليكن منك من ذلك أمرٌ يجتمع لك به حسن الظنّ برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً، وإن أحقّ من حَسُن ظنك به لَمَن حسُن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لَمَن ساء بلاؤك عنده".
كان هذا مقطع من برنامج العمل السياسي – إن صحّ التعبير- الذي قدمه الامام علي بن أبي طالب، عليه السلام، لواليه على مصر، مالك الأشتر النخعي، فما الذي يفيد الأشتر، ردود أفعال الناس إزاء، حسن او سوء ظنه بهم، إن توفرت لديه عناصر القوة والهيمنة، مثل الطاعة بلا نقاش والولاء المطلق؟.
هذا السؤال مطروح منذ أمد بعيد في بلادنا الاسلامية، ومنها العراق الجديد في ظل الديمقراطية، وكانت الاجابة: أن لا حاجة لأن يتعب المسؤول نفسه ويحسن الظن بالناس ليكسب حسن ظن الناس به، وهذا هو الذي أوقع معظم الانظمة السياسية – إن لم نقل جميعها- في العالم الاسلامي، في مستنقع الاستبداد والظلم والانحراف، والسبب في استمرار حالة الاستمراء لهذا الواقع وتطبّع الناس عليه، وجود حالة مختلقة من تبادل التشكيك بين المواطن والمسؤول، أو بين المجتمع والدولة، فكما أن المسؤول يُسيئ الظن بالمواطن، كذلك يفعل الاخير، ويجعله في دائرة الاتهام المستمر، واذا تحدث البعض عن "جدار عدم الثقة"، فانه تعبير واضح عن استساغة هذه المعادلة، لان سيكون لدينا عالمان منفصلان: عالم المواطن والشعب، بما يعيشه من أوضاع جيدة او رديئة، وعالم المسؤول والدولة. فإن كان هنالك مواهب وقدرات خلاقة في المجتمع، ستضيع في غمرة النظرة السوداوية للمسؤول إزاء مجتمع يراه مليئاً بالانتهازيين والمنافقين – حسب تصورهم طبعاً- ، كما ان الشعب من جانبه، لن يرى الشخصيات النظيفة والكفوءة التي تعمل بإخلاص لخدمة الوطن والشعب.
هذه هي السقطة الاولى في مسيرة "النصب الطويل" الذي يشير اليه أمير المؤمنين، في عهده الشهير الى الأشتر. والنصب، كناية على التعب والعناء، الذي يتمثل اليوم في أزمات ومحن، تبدأ ولا تنتهي، على الصعد كافة.
أما السقطة الثانية والاكثر خطورة، فهي في تزامن وجود هذه الشرخ الداخلي والتباعد بين المسؤول والمواطن، مع اقتراب خطر خارجي داهم، كالذي نعيشه اليوم من المعركة الشرسة التي يخوضها العراقيون مع الجماعات التكفيرية، متمثلة بـ "داعش". مما يمكن ان يخلق نوعاً من "الطابور الخامس"، كما لاحظنا في ملامح الحرب النفسية وانتشار الإشاعات عن المعارك الدائرة بين القوات المسلحة العراقية، وبين عناصر "داعش"، فعدد الشهداء الستة او العشرة، يتحول فجأة الى مئة أو مائتين، فاذا كانت ثمة كلمة واحدة وصاعقة توجه الى الحكومة، ستتحول الى مئات الكلمات الصاعقة. ولنتصور ما يحدث...؟!
إن التعب والنصب الذي يشير اليه الإمام في عهده، لم يكن في علاقته مع جمهور المسلمين، مع الفارق الكبير بين امكانات الأمس، وما نعيشه اليوم، فبإمكان المسؤول، في الوزارة او المديرية او حتى رئاسة الوزراء، الإحاطة بما يجري في هذه المدينة او تلك، أو حتى القرية او الشارع او البيت، خلال ثوان معدودة. بينما كان الإمام، عليه السلام، يحكم ليس مدينة في بلد، إنما بلدان متعددة في أمة مترامية الأطراف. وحسب الباحثين والمؤرخين، فان دولة الإمام، كانت تضم ما يمثل اليوم على الخارطة السياسية، حوالي خمسين دولة. مع ذلك؛ لم تبتلَ حكومة الإمام علي، عليه السلام، بأزمات سياسية واجتماعية داخلية، حتى الخوارج وأصحاب الجمل ومثيري الفتن، لم يكن خلافهم معه، على سوء الاوضاع الاقتصادية، او لانتشار الفقر والمجاعة او انعدام السكن او انعدام الحريات والعدالة. إنما المشكلة كانت في انفسهم، وما يحملون من أطماع في المناصب والامتيازات، تصوروا أنهم بتأييدهم للإمام وبيعته للخلافة سيحصلون على نصيب في السلطة، على شاكلة التجارب الماضية.
وربما، إن لم يكن الناكثين والقاسطين والمارقين، يحدثون كل تلك الفتنة والاضطراب في كيان الأمة، لكانت التجربة الناجحة لحكم الإمام علي عليه السلام، تمتد الى الآفاق، ويكون لها مكانة خاصة في التاريخ والحضارة الانسانية.
من هنا؛ نعرف حجم الحاجة الى حسن الظن وتحطيم جدار عدم الثقة بين الجانبين، ومدى الخطورة الكبيرة على حياة الأمة والناس، عندما يستمر هذا الحال، مع وجود المخاطر الماحقة التي تهدد الأرض والعرض والمقدسات والهوية. فاذا ارادت الحكومة في العراق –مثلً- ان تحقق النجاح بما يمكنها من مواجهة التحديات والمخاطر، من سياسية واقتصادية وأمنية، ما عليها إلا التخلّي عن النهج الميكافيلي السائد والذي يطبق بصمت ويتمخض عن قرارات واجراءات، ثم سلوكيات غريبة، تجعل المسؤول – أياً كان منصبه- كما لو أنه فرداً غريباً عن المجتمع، أو انه يحمل هوية بلد آخر...! ثم تسعى – ولو تدريجياً- لإعادة جسور الثقة مع الجماهير، طبعاً؛ هذا ليس بالأمر الهيّن، وربما يتطلب بعض التنازلات والخسائر، لأن ترسبات الماضي ليست بالشكل الذي يمكن إزالته خلال فترة قصيرة، بيد أن نتائج هذه العملية هي المطلوبة في إنجاح تجربة الحكم الديمقراطي في العراق، وهذا يتم من خلال سلسلة اجراءات من أبسط دائرة وفي أصغر قضية في الدولة، الى اكبر دائرة وأكبر قضية، فالمشاكل والازمات تبدأ من الطوابير على شبابيك الدوائر ومروراً في المعاملات المكدسة امام الموظفين، ومستحقات المواطنين، وانتهاءً بالقرارات والاجراءات التي تتخذها الحكومة فيما يتعلق بالخدمات او قضايا اخرى.
اضف تعليق