جسَّد تهجين الهياكل الأمنية استراتيجية متعمّدة تلجأ إليها مجموعة الدول العربية هذه، حيث كانت الموازنة بين القوات المسلحة الوطنية من جهة وبين الهياكل العسكرية والأمنية الموازية من جهة أخرى، بمثابة وسيلة للحؤول دون حدوث انقلاب وإدامة النظام السياسي الحاكم. لبنان كان الاستثناء الوحيد هنا، لكن...
يزيد صايغ، باحث رئيسي في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت
شهدت قطاعات الدفاع في العديد من الدول العربية تحوّلاً ملحوظاً، ما أدّى إلى تهجين الحوكمة الأمنية، وجعل سيادتها مقيّدة بشكل أو بآخر ومتنازع عليها باستمرار.
شهدت قطاعات الدفاع في العديد من الدول العربية تحوّلاً ملحوظاً، نتيجة حالات التمرّد المسلّح والحروب الأهلية، والتدخلات الخارجية، ناهيك عن شلل الأنظمة السياسية التي أفقدت الدولة المركزية أهليتها وأدخلتها في حالة عجز.
في العراق ولبنان وليبيا وسورية واليمن،1 ينخرط على نحو متزايد خليط من القوات المسلحة النظامية الوطنية - أو فلولها وبقاياها - والجماعات المسلّحة (بما في ذلك الميليشيات التي ترعاها الدولة أو غيرها التي حقّقت مكانة شبه رسمية) في أنماط معقّدة من تجنّب الصراعات، والتعايش، والتعاون، المندرجة ضمن سياق أوسع من التنافس المستمر في ما بينها، إضافةً إلى التنافس الجيوسياسي بين مروحة من الجهات الداعمة الخارجية. من النتائج المباشرة لما يحصل تهجين الحوكمة الأمنية في هذه البلدان، ما جعل سيادتها مقيّدة بشكل أو بآخر ومتنازع عليها باستمرار في آن.
على مدى عقود، جسَّد تهجين الهياكل الأمنية استراتيجية متعمّدة تلجأ إليها مجموعة الدول العربية هذه، حيث كانت الموازنة بين القوات المسلحة الوطنية من جهة وبين الهياكل العسكرية والأمنية الموازية من جهة أخرى، بمثابة وسيلة للحؤول دون حدوث انقلاب وإدامة النظام السياسي الحاكم. لبنان كان الاستثناء الوحيد هنا، لكن حتى هناك غضَّت السلطات الحكومية الطَرف ضمناً عن عملية التسلّح الزاحفة للقوى السياسية الطائفية منذ الحرب الأهلية الوجيزة العام 1958، والتي تكثّفت منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، في الوقت الذي انتزع فيه طرف رئيس مسلح غير دُولتي، أي منظمة التحرير الفلسطينية، ملاذاً رسمياً داخل الأراضي اللبنانية.
حصل تهجين الهياكل الأمنية في أواخر القرن العشرين "من أعلى"، أي على يد السلطات الحاكمة، في الغالب، لكن تقهقر قدرات الدولة، وتآكل العقد الاجتماعي، ومواجهة الهوية الوطنية تحديّات جمّة، أدّى إلى بروز ظاهرة عكسية. ففي خضم تفكّك الدول وتفاقم الأزمة المالية، وجدت النخب السياسية القائمة نفسها عاجزة أمام صعود جهات أمنية غير رسمية وجماعات مسلحة أخرى خارج إطار الدولة، أو هي شجّعت عمداً صعودها من أجل تصدير أعباء الأمن إليها. كانت هذه أشبه بعملية تصاعدية من أسفل إلى أعلى، بحيث فقدت القوات المسلحة الوطنية تماسكها الداخلي أو تجزأت تماماً، في حين باتت الجماعات المسلحة على اختلافها جزءاً لا يتجزأ من الترتيبات الأمنية التي تظل بمعظمها غير رسمية، لكنها مع ذلك اكتسبت صفة شبه رسمية بفضل شَرْعَنَة الأمر الواقع من قبل السلطات الحاكمة.
يستند هذا المنحى إلى تطوّرات اندلعت قبل القرن الحادي والعشرين. ففي العراق، مثلاً، وفي ظل العقوبات الدولية التي تمّ فرضها في الفترة بين 1990 و2003، أوكل نظام صدام حسين مهمة الحفاظ على الأمن إلى العشائر وقوى اجتماعية أخرى، في حين أقدم معمر القذافي في ليبيا، ردّاً على التحدّي الجهادي الذي برز في التسعينيات وعلى العقوبات التي فرضتها لاحقاً الولايات المتحدة وغيرها، على تهميش الجيش ومنح الامتيازات لبنية موازية من "الكتائب الأمنية" وغيرها من الأجهزة. أما في سورية، فقد عمد حافظ الأسد إلى التحرّك بحزم في الثمانينيات من أجل حلّ قوات إدامة نظام الحكم التي أسسها شقيقه رفعت – أي "سرايا الدفاع" و"سرايا الصراع" – بعد سنوات قليلة فقط على سحق محاولة الإخوان المسلمين إشعال فتيل التمرّد المسلّح، لكن من دون المساس بالفساد الراسخ والجشع المتنامي. وقد ربط ذلك القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بأطراف اقتصادية إجرامية ذات قدم راسخة في الأسواق السوداء العابرة للحدود، ما قوّض الحوكمة الأمنية ومهّد الطريق أمام عملية التهجين الحادة اللاحقة.
من جهتها، تبنّت دول أضعف وأنظمة سياسية أكثر تعددية وأشدّ اعتماداً على نظام المحاصصة، كاليمن ولبنان، مقاربة مختلفة تتسّم عادةً بـ"أنظمة الدخول المحدودة"،2 بحيث تتراوح بين التغاضي تارةً عن ظهور الجهات الأمنبة غير الرسمية وبين تفويضها مسؤوليات الحفاظ على الأمن تارةً أخرى بأساليب تضعضع مفهوم الدولة نفسه. وقد انطوت هذه العملية على مراحل مختلفة، بدءاً بتحويل ميليشيات الحرب الأهلية في لبنان إلى أطراف حكومية في مرحلة مابعد العام 1989، وعمليات إعادة اصطفاف دورية في اليمـن، بين القوات الرسمية والجماعات غير الرسمية المسلّحة الشمالية والجنوبية والقبلية والجهادية – أحياناً بالتحالف وأحياناً أخرى بالخصومة في ما بينها – وكل ذلك تحت سقف رئاسة علي عبد الله صالح منذ العام 1990 فصاعداً.
بيد أن تهجين قطاع الأمن شهد منعطفاً مع اقتران تفاقم تفكك الدول في أوائل القرن الحادي والعشرين - وما رافقه من تحوّلات في علاقات القوة بين القوى السياسية والاجتماعية المحلية – مع تكاثر الصراعات الجيوسياسية بين القوى الإقليمية والدولية. فقد شهدت كل دولة من الدول العربية التي سبق ذكرها نزاعاً مسلحاً سواء بينها وبين دولة أخرى أو داخل الدولة نفسها، فاندمج النمطان معاً واختلطت الأدوار وضاع التمييز بين توفير الدفاع الخارجي وبين تعزيز الأمن الداخلي والنظام العام. وفي كل حالة، باتت القوّات المسلّحة الوطنية - أو فلولها وبقاياها - إضافة إلى نظرائها غير الدُولتيين (القدامى أم الجدد) أكثر من أي وقت مضى بيادق النفوذ الخارجي.
هذه البيئة التفاعلية وشديدة التعقيد بدّلت الحوكمة الأمنية – أي همزة الوصل بين السلطة التي يعترف بها مزودو الأمن والتي يلجأ إليها المواطنون – من خلال ثلاث أنماط جديدة ومبتكرة.
أولاً، تقوم الجهات المتنافسة المُطالبة بسلطة حكومية ببناء تحالفات عسكرية- أمنية غير مألوفة، تضمّ أجزاء من الأجهزة الرسمية والجهات الفاعلة غير الحكومية، من أجل الوقوف في وجه التحالفات المعارضة لها التي تشكّلت بالطريقة نفسها. وتلجأ إلى إضفاء الشرعية على الجماعات المسلّحة الخارجة عن إطار الدولة، سواء كميليشيات ترعاها الدولة أو كقوات دفاعية وأمنية رسمية أُعيد تشكيلها. وقد قاتلت أقسام من القوات المسلحة الوطنية السابقة كمكوّن من هذه التحالفات المركّبة في مختلف جوانب الحروب الأهلية في العراق وليبيا وسورية واليمن (كما فعلت في لبنان بين العاميْن 1975 و1990)، وانتقلت أحياناً من كونها تُعتبر جزءاً من الهياكل المعترف بها دولياً، إلى دمغها بالمتمردة، ثمّ العكس مجدداً.
الأمثلة على ذلك وافرة: فوحدات الجيش النظامية، ووحدات مكافحة الإرهاب التي حظيت بتدريب أميركي، وجماعات "الحشد الشعبي" الشيعية وغير الشيعية، والقوات العشائرية وقوات البيشمركَة الكردية (المتنافسة) حاربت جميعها جنباً إلى جنب، فيما تبنّت في الوقت نفسه أجندات ونماذج حوكمة متعارضة في العراق. وفي ليبيا، انقسمت القوات المسلحة النظامية والأجهزة الأمنية في كلا الاتجاهين في العام 2011، حيث ارتدى بعد ذلك اللواء السابق خليفة حفتر عباءة قائد الجيش الوطني الليبي ضدّ الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس، والتي هي بحدّ ذاتها رهينة تحالفها المضادّ المؤلّف من الميليشيات المحلية.
وبالنسبة إلى الحرب الأهلية في سورية، فقد شنتها الجماعات المسلحة المعارضة، التي عزّزها المنشقون من الجيش، ودعمها التدريب المهني الذي قدمته قوى خارجية، ضد حكومة أسندت جزءاً كبيراً من القتال إلى الميليشيات الموالية لها التي خلقتها وإلى الجماعات المسلحة الأجنبية التي حشدها حلفاؤها الخارجيون، الذين أدخلوا عديدهم الخاص في الجيش والهيكل الأمني السوري كإجراء إضافي. وفي اليمن، تُشرف حكومة عبد ربه منصور هادي المعترف بها دولياً إشرافاً هشاً على قطاع دفاع رسمي جديد استُحضر من الميليشيات الجنوبية ذات النزعات الانفصالية، في حين ترحّب مبدئياً بوحدات الجيش النظامي التي قاتلت سابقاً إلى جانب المتمردين الحوثيين الشماليين لتوفير الدعم لهم.
أما الشاذ عن القاعدة فكان لبنان، إذ إن تغلغل التنافس الطائفي- الحزبي إلى داخل الجيش بلغ مستويات غير مسبوقة حتى في الوقت الذي تحسّنت فيه قدراته المهنية بشكل ملحوظ.
يتمثّل النمط الثاني الجديد في الانسيابية الملحوظة لهذه التحالفات، سواء بين الجماعات المسلّحة أو بينها وبين النخب السياسية التي تمارس السلطة الحكومية (مهما كانت تلك السلطة رمزية). ويُعزى ذلك جزئياً إلى أن معظم هذه الجماعات المسلحة لاتكترث بالحكم الفعلي، بمعنى توفير الخدمات العامة مثل الرعاية الصحية أو التعليم أو العدالة. فهي تترك هذه المهمات، التي تختصّ بها الدولة، في يد أي جهة تعتبرها حكومة شرعية، حتى وهي تقوم بتقويضها في الوقت نفسه.
ثمّة المزيد من الأمثلة. فنجد في العراق حكومة إقليم كردستان في إربيل، والحكومة الاتحادية في بغداد، والدولة الإسلامية في الموصل (حتى العام 2017)؛ وفي ليبيا، المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الوطني ومجلس النواب في طرابلس وطبرق؛ وفي سورية الحكومة المركزية في دمشق وفي الطرف المقابل الحكومة المؤقتة المعارضة، ومجلس سوريا الديمقراطية بقيادة الأكراد، وجبهة الإنقاذ الوطني الجهادية في أقسام مختلفة من شمال سورية؛ وفي اليمن، تحالف الحوثيين- صالح في صنعاء (حتى 2017)، وحكومة هادي في عدن، ومحافظة مأرب شبه المستقلة. ليست المسألة هنا تحديد هوية الحكومة "الحقيقية" أو "الفعلية"، بل أن كلاً من هذه الجهات التي تدّعي الصفة الحكومية تزعم بحقها في منح الشرعية لأي تحالف عسكري تعتبره قطاع الدفاع أو الأمن الرسمي للدولة، والذي ربما تكون هي قد أوجدته أو فُرض عليها بحكم الأمر الواقع.
ثالثاً، ترتبط انسيابية التحالفات السياسية التي تشكّل (وتعيد تشكيل) الحكومات (وشبه الحكومات) وهياكلها العسكرية- الأمنية المقابلة، ارتباطاً وثيقاً بالانخراط الواسع للقوى الخارجية. بيد أن الدول الضعيفة التي تتخلى عن توفير الدفاع والأمن أو تفوّضه إلى جهات فاعلة مادون الدولة، تفسح في المجال أمام التدخلات التي تخدم أجندات جيوسياسية أوسع، من دون إصلاح التكسّرات التي أفرزت هذه المحصلات في المقام الأول. فبدلاً من عكس عملية تهجين الهياكل الأمنية والحوكمة، تعمل القوى الإقليمية والدولية على إدامتها.
هذه الديناميكيات التنافسية تجعل من المقاربات الغربية التقليدية، مثل عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج (DDR)، (وحتى "الجيل الثاني" من هذه العملية والتي ترتكز بشكل أكبر على مشاركة المجتمعات المحلية)، غير قابلة للتطبيق أو غير ذات صلة. وعلى الرغم من أن العديد من الدول حول العالم قامت بمأسسة عملية تهجين قطاع الأمن،3 إلا أن المنافسة الجيوسياسية بين الحكومات الأجنبية المتدخلة - والتوازن المحلي المضاد الذي تثيره – تحول دون تبني التهجين كوسيلة بديلة لحلّ معضلات الأمن وتمكين التسويات السياسية في الدول العربية المذكورة. وفي حال كنا بحاجة إلى أدلة، يمكن إيجادها بسهولة في الخلاف المرير حول وضع وحدات الحشد الشعبي المختلفة في العراق وحزب الله في لبنان، وفي المحاولة الفاشلة لتشكيل فرقة موازية لقوة "درع ليبيا" في البلاد، وفي قيام روسيا وإيران والولايات المتحدة ببناء قوات متنافسة في سورية، وفي مرحلتيْ عملية إعادة هيكلة الجيش اليمني غير المجدية التي أطلقها مجلس التعاون لدول الخليج العربية منذ العام 2011.
تختبر هذه الدول العربية سيادة مقيّدة - على الرغم من جميع ادعاءاتها بالعكس – بيد أن ما يُحدث ضرراً بالغاً على وجه الخصوص، يتمثّل في أنها محط نزاع بشكل مستمر، إذ إن الأطراف الخارجية التي تقيّد سيادتها متواجدة في موضع المنافسة المباشرة. وبالتالي، سيكون من غير الممكن حلّ أو تطبيع عملية تهجين هياكلها الدفاعية والأمنية وحوكمتها، إلى أن يتم كسر هذه الحلقة المفرغة.
اضف تعليق