بين زحام الموت، يرحل الكثير.. تترجل أرواحهم في فصل ما، قد يكون في خريف العمر أو ربيعه، وفي محطة يمر بها الجميع ولا يفطنون الى انها قد تكون الاخيرة، يربض ضيف، قد مرَّ طيفه قبلا على شرفات حياتنا وطرق على مهل أبوابنا الموصدة في وجهه!! وحين يزف الوقت يخطف أرواحاً بشتّى الطرق، أينعت وقد حان قطافها!!
بين شمسٍ وقمر، بين يعسوب الدين وقبلة العاشقين.. ودّع آخر نبض في قلب الجواد هذه الدار.. حصّل زاده ومضى ولم يٌطفئ بعد شموعه الثلاثين، لبّى نداء ربه وتركنا بدون وداع، مُخلفاً في القلب ندوبا عميقة أضيفت الى اخرى قديمة لم تُشف بعد!!
***
أُعيد فتح تلك الدفاتر القديمة المبعثرة في دهاليز الذاكرة حيث الازّقة الضيقة والنسائم الباردة المبخرّة برائحة الياسمين.
يقف شريط الذاكرة عند صور جميلة أتشبّث بما تبقى منها، الى أيام شدَّ فيها نجل (المجدد الشيرازي الراحل وابن أخ المرجع الشيرازي الحاضر) وعائلته الرحال الى مدينة دمشق وبجوار مرقد عقيلة الهاشميين زينب الكبرى(ع).
انضم اية الله السيد مرتضى الشيرازي الى كوكبة من الاساتذة المدرّسين في الحوزة العلمية الزينبية (وهي أول حوزة تأسست في سورية وكانت على يد سماحة السيد الشهيد حسن الحسيني الشيرازي عام 1976 م وتعتبر من أهم المؤسسات الدينية الشيعية ويدرس فيها مئات الطلبة من جاليات وجنسيات مختلفة) والتحق نجلاه السيد مصطفى ومحمد جواد الى طلبة العلوم الدينية في هذه المؤسسة الدينية العريقة.
وفي أعيننا تحلو ذكريات ذلك الزمن الجميل..
ينفض والدي الغبار عن الذاكرة ويفتح نافذة الماضي ويقفز منها الى تلك الحديقة المزدانة بأجمل الزهور ألا وهي المكتبة التي تعيش على أرففها "عقاقير الروح".
هناك أشخاص، لقاءك بهم هدية لاتقدر بثمن. وكذلك كان الراحل السيد محمد جواد الشيرازي، فلقد كان لوالدي وقفات معه، فكان يتردد كل حين مع أخيه السيد مصطفى( كان لايفارقه الا ماندر) الى مكتبة والدي. كانت صفاته أثبت من الوشم فظلت عالقة في ذهنه، انه مصداق الآية الكريمة (سيماهم في وجوههم) فكان فتىً دمث الاخلاق وفي قمة التواضع.. باسم الثغر حلو العشرة ومليح المحاورة، هالة من نور تحيط وجهه البهي "وما أشبه الاحفاد بالأجداد".
ترك بصماته في كل ركن توقف فيه وكان للكتاب موقعا متميزا في حياته على صغر سنه.
كان كفراشة زاهية بأجمل الالوان تنتقل من زهرة الى أخرى، كذلك كان ينتقل من كتاب الى اخر فهو مفتاح العلم والمعرفة أليس (مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء) وهكذا تتلمذ بين ابواب العلم والدين والاخلاق وأنار طريقه ضريح عمّته زينب التي ستشتاق جدرانها دوما الى جلساته وتأملاته في هذه الواحة التي تربض في صحراء الحياة.
فمرقد الحوراء زينب منجم الذهب يرفل بكنوز تُمنح لكل من يرنو اليها، وكان السيد الراحل السبّاق الى الاغتراف من هذا النبع.
فصار السيد نموذجا للشاب المؤمن الخلوق الذي يحظى باحترام الصغير والكبير في تلك البلاد وقبل ان يعرفوا انه سليل عائلة الشيرازي التي يحفل تاريخها بالعلم والاخلاق.
نجح في الجمع بين حقول الحياة، تعلّم العلم وعلّمه وتزوج وأصبح رب أسرة وأب لخمسة أطفال، في مرحلة عمرية يستصعب الكثير من الشباب فعل كل ذلك بحجة الصعوبة وعدم المقدرة على" حمل بطيختين في يد واحدة" واتبع الراحل بذلك نصيحة أمير المؤمنين (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا) فكان بحق مثالا حيّا للنائمين في أقبية الكسل والمماطلة!!
ودارت بضع سنوات دورتها وقبل أن تُقرع طبول الحرب في سوريا وأبحرت بهم سفينة الحياة الى مرفأ جدّهم أمير المؤمنين مدينة النجف، ليكمل السيد الراحل مسيرته العلمية والدينية بذات الحماس وترك فراغا في كل مكان تواجد فيه ابتداءا بالحوزة الزينبية مرورا بالمكتبة وانتهاءا بمقام عمّته الحوراء زينب التي ودعها الوداع الاخير!!
***
كان كل ذلك كحلم جميل يتذكره أهالي حي السيدة زينب وكل من التقى به في تلك الايام.. فيد المنون خطفته منّا ولا اعتراض على قضاء الله في حادث سير مؤلم، بعد أن ترك بصماته أينما حلّ وارتحل وحلّقت تلك الفراشة عالياً الى النور المطلق وقد عاش باحثاً عن النور وتركت جسدها الفتي الفاني.
شيّع السيد الاف المحبين و"المورد العذب كثير الزحام" ونحن أحوج اليه اكثر من أي وقت مضى بسبب الغزو الفكري والثقافي الذي يجتاحنا من كل صوب، هذا وجرح فقد عمّه "الرضا" لم يلتئم بعد.
نم قرير العين.. فانك رحلت كجسد لكنك عشت كنموذج يحتذي به كل شاب يروم العلا وتركت لنا أحلاما زرعتها ليحصدها أقرانك. غادرتنا صغير السن طاعنا في الدين والخُلق ورسمت لنا استفهامات كبيرة تهمس لنا بصوت خافت: الحياة لاتزال تدبّ بكم فماذا انتم فاعلون؟!
رحم الله الماضين منكم وحفظ الله الباقين وألهم ذويكم الصبر والسلوان.
وكم مات قومٌ وما ماتت مكارمهم......ومات قومٌ وهم في الناس أحياء
اضف تعليق