(المركز الحسيني للدراسات – لندن): عبّر المحقق الكرباسي عن قناعته التامة بأن الاستبصار والاهتداء بسنة النبي محمد(ص) وأهل بيته الكرام(ع) هي نعمة كبيرة لابد من الشكر عليها.
جاء ذلك في ملتقى المستبصرين الذي انعقد في العاصمة البريطانية لندن في المركز الحسيني للدراسات يوم السبت 19/12/2015م تحت شعار (ملتقى تجليات البصيرة في تنوير القيم الإنسانية) الذي حضره العشرات من المستبصرين من جنسيات مختلفة ووثقته وسائل إعلامية مختلفة منها قناة المنار وقناة الفرات وقناة كربلاء الفضائية.
وأكد آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي راعي الملتقى ومؤلف دائرة المعارف الحسينية في نحو 900 مجلد، أن عدم الشكر على الاستبصار يقابله كفران النعمة، مشيرا الى ان الاستبصار انطلاقة نحو الانفتاح وتوسيع الآفاق، وهو نور يقذفه الله في قلب من يشاء ما دام العبد يريد الوصول الى منبع الحقيقة.
وقال الكرباسي في الملتقى، أن الاستبصار لا يعني معاداة الآخرين، ومن الخطأ أن يأخذ المستبصر جانب العداء من الآخر، بل يدعوه استبصاره الى التعامل مع الجميع بروحية عالية وهذه سنة النبي(ص) وأهل بيته الكرام(ع)، فالمستبصر الحقيقي هو الذي يتبع سيرة النبي محمد(ص) وأئمة أهل البيت (ع) ولا يفصل بينهما، فهما كتلة واحدة ومنبع واحد وسنة واحدة.
وفي ختام مداخلته قال الفقيه الكرباسي الذي يعد من كبار المحققين في العالم الإسلامي، أن الاستبصار لا يعني المحبة المجردة عن العمل والولاء، فالاستبصار يستوجب العمل بسنة النبي محمد وآله، وهي سنة الوسطية والتعامل مع الآخر كأخ في الدين او نظير في الخلق، كما نوه في مداخلته أن الإسلام نشأ في قريش ثم انتشر الى العرب والعجم الذين كانوا على ديانات ومعتقدات ونحل متنوعة، وبذلك فإن الاستبصار ليس حالة جديدة أو طارئة فكل المسلمين وعلى مدى التاريخ وتعدد الأصقاع هم مستبصرون بالإسلام.
ملتقى المستبصرين الذي حضرته شخصيات علمية وعلمائية وجامعية وأدباء ومثقفين ومستبصرين من العراق ولبنان وغانا والصومال واليمن وإيران وفرنسا وكينيا وبريطانيا وفلسطين وتنزانيا والهند وباكستان والمغرب وتركيا والسودان والجزائر، وغيرها، افتتح بقراءة آيات من الذكر الحكيم تلاها المستبصر الجزائري الدكتور عبد العزيز شبين، وكلمة قصيرة لمدير الملتقى المستبصر العراقي الأستاذ عمر آلاي بيك، الذي اعتبر أن ملتقى المستبصرين الذي ينعقد تحت مظلة المركز الحسيني للدراسات الذي تصدر عنه أجزاء دائرة المعارف الحسينية التي بلغ المطبوع منها مائة جزء، يأتي في إطار سعي المركز لفتح المجال امام أصحاب الإختصاصات المخلتفة من أجل إثراء الساحة فكريا وثقافيا، ومسألة الاستبصار هي من المسائل المهمة التي ينبغي معرفة أسبابها ودواعيها وما إذا كان الاستبصار ذاتي ام خارجين مؤكداً بأنَّ الملتقى ليس له أهداف سياسية ولا هو موجه ضد أحد، بل هو منجز ثقافي وحضاري ينطلق من قاعدة احترام الآخرين وعدم التعرض لرموز الآخرين بما يعود بالضرر على الذات والآخر عملاً بسيرة النبي(ص) وآله (ع) كما قال الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع): (كونوا لنا دعاة صامتين)، وقوله عليه السلام: (كونوا لنا زينًا ولا تكونوا علينا شينًا)، أي الإقتداء عبر العمل الصالح لخير الإنسان والأمة والبشرية.
التأم الملتقى في محورين، تحدث في الأول وتحت عنوان أسباب الاستبصار ودواعيه، المستشارة القانونية السيدة أم كلثوم الشريف علي باعلوي اليمنية الأصل، تطرقت إلى تجربتها الشخصية وتحولها من الشافعية الى الوهابية ثم الإمامية، حيث جاء التحول بعد سنوات من انتقالها للسكن في المملكة المتحدة واحتكاكها بحكم عملها كمستشارة قانونية وناشطة اجتماعية بالكثير من الأسر المسلمة من مذاهب مختلفة، معتبرة أن تحولها جاء عن قراءة واعية للمذاهب وتاريخها، وهذا التحول لا ينافي احترام المذاهب الأخرى واحترام رموزها وأتباعها، بل هي سنة النبي (ص) وآله(ع) في التعاطي مع الجميع بصدر وسيع. وانتهت المستشارة القانونية أم كلثوم باعلوي الى التأكيد بأن المسلمين مهما عملوا وصرفوا لا يمكنهم أن يؤدوا جزءاً من نعمة الهداية وما بذله النبي محمد(ص) وأهل بيته(ع) من تبليغ الرسالة وهداية الناس الى سواء السبيل، ولو قدمنا ملء الأرض ذهبا ما وفينا حقهم وهدايتهم لنا وللبشرية.
وحول المحور الثاني من الملتقى يجيب المستبصر السوداني المستشار القانوني السيد عبد المنعم محمد حسن الشيخ على استفسار ما إذا كان الإستبصار بهدى محمد (ص) وآله الكرام (ص) ذاتي الدواعي والأسباب أمْ خارجيًا، فمن رأيه أن الاستبصار ذاتي الحركة قد يتأثر بأمر أو حدث خارجي يدعو المرء الى القراءة الواعية من جديد لما يتعبد من فقه إسلامي، وفق دعوة القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ. ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ) سورة الزمر: 17 و18، معتبرا أنَّ الاستبصار ظاهرة طبيعية في حياة الأمم وحركتها تدفع بالناس الى ما يحييهم، وهي دعوة مفتوحة، اختلفت من دين الى دين، ورسالة الاسلام جاءت مكملة وينبغي أن يكون فيها الحل لكل الأدواء والأمراض الاجتماعية وغيرها، فهي حركة مرتبطة بالانسان وبحثه عن الخلاص، وهذه المحورية هي الاساس في حركة الاستبصار.
وحول المؤثرات الخارجية، أضاف المستشار عبد المنعم الشيخ، إن الاستبصار والإيمان بدين أو معتقد أو مذهب هو في الاساس داخلي مع وجود بعض المؤثرات الخارجية، ففي عصرنا الحاضر فأن قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م هو مؤثر، وقيام المقاومة في لبنان هو مؤثر، وسقوط نظام صدام حسين عام 2003م هو مؤثر، هذه الحوادث المهمة ساعدت بشكل كبير في نشوء قنوات الاتصال بين المسلمين كمذاهب وبين المسلمين والآخرين كأديان، أعطت هذه المؤثرات مع نشوء وسائل الإعلام والاتصال وتطورها الحافز لدى المسلم على قراءة الذات والآخر والتحول حسبما يراه صائبا، كما أن المؤثرات الخارجية ساهمت في رفع اللبس وكشف ألاعيب الآخرين الذين كانوا يمارسون الكذبة والحيلة لخداع المسلمين وتخويفهم من الآخر وتكفيرهم.
وأكد المستشار عبد المنعم الشيخ في ختام كلمته أن الاستبصار قوة ومناعة وقناعة ذاتية، داعيا في الوقت نفسه الانفتاح على الآخر، مشيراً أنه ليس هناك خارطة طريق للاستبصار بعينها، وإنما هي منوطة بالشخص نفسه، فبعضهم تأثر بحوادث تاريخية مثل واقعة استشهاد الإمام الحسين(ع)، وبعضهم بحوادث معاصرة مثل التحولات في إيران ولبنان والعراق، محذراً في الوقت نفسه من المؤامرات لإشعال الفتن المذهبية طالباً الإعتبار مما حدث في نيجيريا في مدينة زاريا في 13/12/2015م من قتل بشع على الهوية المذهبية من دون وجه حق.
من جانبه وافق المستبصر التنزاني العلامة الشيخ أيوب راشد أبو حيدر في كلمته عدداً من المتحدثين بأن الاستبصار من أهم النعم التي أولاها الله لعباده، ولا يمكن عدها كما قال تعالى في محكم كتابه: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة النحل: 18، معتبراً ان عنوان الملتقى جاء ليوضح حقيقة الإيمان وحقيقة الإستبصار فالمعرفة العميقة للإسلام تتأتى من تجليات البصيرة التي تعني معرفة الشيء والعمل على ضوئه، واتباع سنة النبي محمد(ص) وأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس هو قمة البصيرة والعمل بمؤداها.
وكان للأدب العربي حضوره في الملتقى حيث ألقى الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز شبين قصيدة عصماء من 64 بيتاً من الرجز بعنوان (إذا الفؤاد استبصر)، جاء في مطلعها:
دهراً مشيتُ راجياً فَلَمْ أرَ ... حتى انتظرتُ حيدرًا كيْ أُبصرا!
قالّ لي الأعمى: بأيِّ شارقٍ ... بصُرْتَ قلتُ: بالَّذي فوق الذُّرى
ويعبر الشاعر الجزائري شبين عما في داخله فينشد:
بِمَدْرَسِ العترةِ تلميذٌ أنا ... منهم أساطيرَ حَبَرْتُ للورى
ويعرج الشاعر على الإمام الحسين(ع) ودائرة المعارف الحسينية التي ينشط فيها منذ سنين، فينشد:
موسوعةُ السبطِ أرى بأُفقها ... وحياً سماويَّ الغُيوبِ مُقمرا
ثم يعرج على الجد(ص) والوالد(ع)، فيُنشد:
يصفَعُني اللَّاتُ بليلِ أمَّةٍ ... ناديتُ فيها أحمدًا وحيدَرا
ويختم القصيدة الولائية بقوله:
يُخصبُ نورُ الوحيِ في جوارحي ... مُوَرِّقاً إذا الفؤادُ استَبصرا
وفي إطار الأدب تلا الفتى التنزاني الأصل حيدر الشيخ أيوب ارشد أبو حيدر موشحات نبوية من الشعر العربي القريض شدّ الحاضرين بصوته الجميل.
وتداخل في الملتقى عدد من المستبصرين من جنسيات مختلفة، منهم الأستاذ محمد ملك من فرنسا حيث وجد أن قراءته المتكررة للتاريخ وحوادثه ومتابعة ما كتب في الصحاح الستة وفي غيرها أن اتباع سنة النبي محمد(ص) وأهل بيته(ع) هو الذي حث عليه القرآن الكريم في اكثر من مورد. فيما وجد الأستاذ محمد محمود علي، من الصومال، أن آية التطهير (نَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) سورة الأحزاب: 33، أحد مداخل الاستبصار واتباع مدرسة أهل البيت(ع)، فيما تساءل الأستاذ حسين الكيني بحرقة وألم: لماذا التحول من الشافعية الى الحنفية لا تعد مشكلة، ولكن التحول الى مذهب أهل البيت(ع) يتبعه أذى ويتعرض صاحبه لمضايقات نفسية واعتداءات جسدية تطال الروح والأموال والأعراض؟ داعياً الجميع الى الانصاف واحترام العقل وعدم الإعتداء على حريات الآخرين الفكرية والاعتقادية والفكرية.
فيما اعتبرت المستبصرة السيدة خديجة أيوب كوانساه وهي من غانا التي تحولت من المسيحية الى الإسلام، إن تحولها جاء عن قناعة، ولكني اصطدمت بحقائق جديدة لم أكن أعرفها عن المذاهب الإسلامية وتكفير البعض للبعض الآخر، وهو ما قادني الى قراءة متمعنة للاسلام ومذاهبه وهداني صحيح مسلم الى أن النبي محمد(ص) كالأنبياء السابقين ترك وصياً عليّ طاعته بوصفه هادياً كما كان عليّ في البدء طاعة النبي محمد(ص) بوصفه منذراً. فيما رأت السيدة فائزة أبوكر يوسف وهي مستبصرة من الصومال أن الاعتداءات المتكررة على مساجد الشيعة الإمامية وحسينياتهم في العراق وغيرها من البلدان وارتفاع وتيرتها مع قدوم شهر محرم ذكرى استشهاد الإمام الحسين(ع) أثارت فيَّ غريزة قراءة التاريخ ومعرفة الحقيقة والوقوف عليها والعمل بها.
ويعتبر ملتقى "تجليات البصيرة في تنوير القيم الإنسانية" باكورة الموسم الثقافي الجديد للمركز الحسيني للدراسات بلندن الذي أقام الكثير من الملتقيات والندوات والمؤتمرات في داخل المملكة المتحدة وخارجها مثل السنغال والعراق وباكستان والكويت وسوريا وإيران وغيرها.
اضف تعليق