دعاة فصل الدين عن الحياة مُحقون في شيء واحد بما ذهبوا اليه، وهو أن النظام الغربي القائم على النفعية والمادية في فهم الحياة، من المستحيل الاندماج مع النظام القائم على الأخلاق والآداب ومبدأ الثواب والعقاب، بل يعده تهديداً ماحقاً له، لأن ببساطة، الاسلام يعطي الانسان حق التملّك بشروط مغرية وفق قاعدة "الأرض لمن عمّرها"...

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.

عجزت النظريات المبشرة بسعادة الانسان عن ايجاد مصاديق عملية تفيد الحاضر والمستقبل، ولتكتسب الرصانة العلمية والفكرية، فقد تصور المفكر الاميركي من أصل ياباني؛ فرانسيس فوكاياما يوماً ما أن انهيار الامبراطورية الشيوعية في اوربا الشرقية بانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، يمثل دلالة على أحقية الليبرالية والديمقراطية كبديل نهائي للشعوب الطامحة للحرية والسعادة ، فجاء عنوان كتابه "نهاية التاريخ" ليؤكد فيه أن "الشكل الوحيد للنظام السياسي الذي لم يطرأ عليه تغيير عبر التاريخ هو الليبرالية الديمقراطية".

هذه النظرية كانت معولاً آخر أسهم في تحطيم النظرية الاشتراكية –الماركسية، وهي الأخرى كانت تدّعي الأمر نفسه، و وضعت الانسان على طريق طويل لا نهاية له من الصراع الطبقي بين الفقراء والاغنياء على أمل نهاية الطبقية بالكامل في المجتمع، و وضع حد نهائي لاضطهاد البشرية، بمعنى أن هذا المفكر الاميركي أراد اختزال الوقت على شعوب المنظومة الشيوعية بالانتماء الى المذهب الليبرالي الديمقراطي (الغربي) لتحقيق ما يحلمون به من وراء الصراع الطبقي الطويل الأمد. 

لا المذهب الليبرالي الغربي أثبت مصداقيته، ولا المذهب الماركسي، والأدلة من القارة الأوربية نفسها، مهد الثورة الصناعية، ومنبع النظريات والافكار السياسية، فهذه فرنسا كادت تحترق مؤخراً بالتظاهرات الاحتجاجية لأصحاب "السترات الصفراء" عام 2018، وهم شريحة سائقي سيارات الأجرة، تنديداً بارتفاع اسعار الوقود والضرائب التي رأوا أنها تستنزف الطبقة العاملة والمتوسطة وتخدم الطبقة الغنية.

ومن قبل انحنت النظرية الماركسية في مختلف دول العالم أمام نظرية العقل الموجبة إعطاء الانسان حرية الاختيار والعمل والتملك، والحديث عن هذا طويل، إنما الغرض من هذه المقدمة التي امتدت بعض الشيء؛ الإشارة الى بديل لا يتعكّز على الحركة السياسية في تاريخ الانسان، بقدر ما يعتمد الثوابت القيمية المتطابقة مع فطرته ووجدانه، فالسياسة متغيرة، بينما الثابت باتفاق الجميع في العالم؛ ايجابية الصدق، والأمانة، والتعاون، وسلبية الخيانة، والعدوان، والظلم، والميل الفطري لأي انسان نحو الحق، والسلم، والعدل، والحرية. 

الفرصة متاحة لتحقيق الآمال الكبيرة 

لا أجد القارئ الكريم بحاجة لإضافة مزيد من الإرشاد والثناء على النظرية الاسلامية في الحكم على ما قدمه العلماء والمفكرون في مؤلفات عديدة، بقدر ما تكون الحاجة للتذكير بالبشارة الإلهية بوجود {الهُدى و دين الحق}، وهو مزيج من عنصري نجاح قطعي على مر الزمن؛ الهُدى، وهو الطريق المُضيء الى الحيقيقة، ثم الحق كمعيار نحتكم اليه في تحديد صلاحية الأقوال والأفعال.

وفي القرآن الكريم جاء الخطاب الإلهي الى رسوله الكريم وهو في المدينة يقود أول تجربة لعلاقة ناجحة بين المجتمع والدولة بأن {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، والظهور، مصطلح قرآني يدل على الغلبة والعلو والتفوق، وفي قواميس اللغة هو؛ وضوح الشيء بعد خفائه، بأن "الهدف النهائي للرسالة الخاتمة شمولية الهُدى للعالم كله، وسيطرة الحق ودين الحق على الأديان كلها"، (بحوث في العقيدة والسلوك- آية الله السيد مرتضى الشيرازي)، ولتأكيد هذه الحقانية يبين سماحة السيد الشيرازي في مؤلفه هذا أن تحقيق هذه الغاية الإلهية الكبرى "ليست عمل النبي الأكرم وإنما عمل الله –تعالى-"، فاذا لم يتم للنبي ذلك بشكل كامل في حياته، فان الله مدخرٌ يوماً لإتمام العملية بشكلها التام والكامل يكون على يد الإمام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه.

وهذه الآية الكريمة لها بعد حضاري واضح يقدم للبشرية النظام المتكامل لحياة سعيدة يواكب الزمن الى مئات او آلاف السنين، وربما يصحّ إطلاق "نهاية الحضارات" كأحد دلالات هذه الآية، إنما المشكلة في التطبيق العملي، وفي إرادة الانسان للاستفادة من هذه الفرصة الذهبية التي هي أشبه ما تكون بأشعة الشمس، تشرق كل يوم منذ أو وجدت بفضل الله –تعالى- ففي العصور القديمة كان الانسان يتخذها مصدر دفء او تجفيف الطين –مثلاً- بينما انسان اليوم يتخذها وسيلة لإنتاج الطاقة الكهربائية، فهي لم تتغير مطلقاً، إنما التغيير طرأ على نمط الاستخدام. 

وفي مقالات سابقة أشرنا الى هذه الحقيقة المغيبة –للأسف- بأن المسلمين في القرون الأولى لم يواجهوا مشكلة اجتماعية او اقتصادية او نفسية بسبب انتمائهم الى الإسلام، إنما مشكلتهم الوحيدة مع السياسة والحكم ومن يسعى اليها بالحديد والنار، فلم تكن هنالك أوبئة، ولا حروب أهلية او طائفية، ولا صراع طبقي، وحتى مرور قرنين من الزمن على تشكيل الدولة الاسلامية لم يعرف الفقهاء كيفية تطبيق حدّ السرقة على السارق، فكانت الإجابة من الامام الجواد، عليه السلام، في عهد المعتصم العباسي، الامر الذي يجدر بنا إعادة النظر في العلاقة بين الدين والحكم في البلاد الإسلامية وفق الرؤية الحضارية وليس الرؤية السياسية. 

الإصرار على السراب

ما يزال الجدل دائراً بين دعاة التغرّب لصياغة أنماط الحكم للشعوب الاسلامية، ودعاة التأصيل لنظام الحكم في الاسلام، وطوال قرن من الزمن يصر الفريق الأول على عدم امكانية تحقيق وتطبيق ما جاء في القرآن الكريم في العصر الحديث، ونطق بهذا النفي الآباء المؤسسون لنظرية فصل الدين عن الحياة من أمثال أتاتورك في تركيا، و رضا شاه في ايران، والحبيب بورقيبة في تونس، واعتقد أنهم محقون في شيء واحد بما ذهبوا اليه، وهو أن النظام الغربي القائم على النفعية والمادية في فهم الحياة، من المستحيل الاندماج مع النظام القائم على التكافل والتعاون والصدق والأمانة، وسلسلة من القواعد الأخلاقية، وعلى مبدأ الثواب والعقاب، بل يعده تهديداً ماحقاً له، لأن ببساطة، الاسلام يعطي الانسان حق التملّك بشروط مغرية وفق قاعدة "الأرض لمن عمّرها"، بينما في الولايات المتحدة الاميركية، يشتري المواطن بيتاً بماله الخاص، ثم عليه أن يدفع ضريبة الأرض التي بُنيت عليها بيته الى الدولة!

لا علينا بالتجارب الفاشلة في العالم، ونسمع بأخبار الازمات يومياً على مختلف الصُعد، إنما تهمنا التجربة السياسية في بلادنا، و سرّ عجر الساسة المسلمين عن الاستفادة مما جاء في القرآن الكريم وفي سيرة الرسول الأكرم من قوانين ونظم؟ هل جربوا فشلها مثلاً، وبالمقابل جربوا نجاح التجارب الأخرى في العالم؟! وهل إن النظام الاسلامي يسبب لرجال الحكم الخسران والمهانة وحياة النكد؟! 

إنها اسئلة بسيطة تدور في اذهان الكثير من الناس، ولا يصلهم من جواب إلا مزيد من الجور، والظلم، والفساد، ونهب الثروات، والتخلف، وضنك العيش، والأعجب من كل هذا، تأثر الساسة في البلاد الاسلامية بكل هذه المساوئ في نهاية المطاف، فالاخبار من القصور الرئاسية على مر الزمن ليست سوى انقلابات عسكرية –في سالف الأيام- ثم في تطور جديد؛ مؤمرات ودسائس للتسقيط بأبشع الحالات، وتحت شعار "الديمقراطية"، وحكم الشعب! 

اضف تعليق