إن العراق وهو يعيش تحديات الدولة الحديثة، يقف اليوم أمام فرصة نادرة لإعادة بناء شرعيته السياسية من خلال هذا الجيل الرقمي، الذي لم يعد يطلب موقعًا في السلطة، بل يريد شراكة في صناعة القرار. فبدل أن يُنظر إليه كتهديد، يمكن تحويله إلى طاقة وطنية خلاقة، تؤسس لاقتصاد معرفة حقيقي، وإدارة شفافة، وإعلام تفاعلي يستمد قوته من الوعي الجمعي...

في السنوات الأخيرة، لم تعد الاحتجاجات الشبابية مجرد رد فعلٍ عابر على الأوضاع الاقتصادية أو السياسية، بل تحوّلت إلى خطاب وعي جديد يصنعه جيل رقمي يعيش السياسة بطرائق مختلفة، جيلٌ لا يعتمد على التنظيمات الكلاسيكية أو الهياكل الحزبية، بل على الفضاء المفتوح للإنترنت، حيث تُدار الحملات ويُصاغ الرأي العام بلمسة شاشة. 

هذا التحول بدا واضحًا في مدغشقر عام 2023، حين قاد جيل Z موجة احتجاجات غير تقليدية، اتخذت من المنصات الرقمية منبرًا لتوحيد الصوت الشبابي المطالب بالتغيير، ما جعل الحكومة تواجه لأول مرة جيلاً يصعب إخضاعه أو احتواؤه عبر الأدوات السياسية التقليدية.

لم تكن تلك التحركات مجرّد مظاهرات عابرة، بل كانت اختبارًا لزمن جديد من الفعل الاجتماعي، حيث يصوغ الشباب مفرداتهم بأنفسهم، ويتحدثون بلغة لا يتقنها الساسة القدامى. الجيل الرقمي في مدغشقر، شأنه شأن نظرائه في مناطق أخرى، لا ينتمي إلى أيديولوجيا محددة بقدر ما ينتمي إلى فكرة «الحق في المشاركة» و«القدرة على التعبير». وبذلك، فإن ما يحدث هناك لا ينفصل عن ما جرى في المغرب خلال احتجاجات 2024، حين خرجت تظاهرات شبابية رافضة للسياسات الاقتصادية، لكنها عبّرت أيضًا عن أزمة ثقة بين المواطن والمؤسسة السياسية. في كلتا الحالتين، نحن أمام وعي جماعي جديد، يقوده جيل يملك أدواته ويتحرك خارج الأطر التي رسمها الماضي.

وإذا انتقلنا إلى العراق، نرى أن «جيل العراق الرقمي» بات يعيش التحول ذاته، بل على نحو أكثر تعقيدًا وعمقًا. هذا الجيل الذي نشأ بعد عام 2003 وسط صراعات سياسية وطائفية واقتصادية، وجد في الفضاء الرقمي متنفسًا لصوته، ومساحة لإعادة صياغة وعيه الجمعي. في ساحات الاحتجاج كما في المنصات الافتراضية، تتقاطع اللغة ذاتها: لغة السخرية من السلطة، والبحث عن كرامة مفقودة، والإصرار على كشف الفساد المستشري في مؤسسات الدولة. لم يعد الشارع العراقي مجرد مكان للتظاهر، بل أصبح امتدادًا للعالم الرقمي، حيث تتحول التغريدة إلى هتاف والمقطع القصير إلى وثيقة احتجاج تحمل صدى واسعًا.

إن الرابط بين مدغشقر والمغرب والعراق ليس الجغرافيا، بل «الوعي الشبكي» الذي يعيد تشكيل مفهوم المشاركة السياسية. فالجيل الرقمي، من أقصى إفريقيا إلى الشرق الأوسط، لم يعد ينتظر الإصلاح من فوق، بل يصنع التغيير من الأسفل، من الهامش الافتراضي الذي يتحول ببطء إلى مركز القرار الرمزي. هذا الجيل لا يخاف من المواجهة، ولا يتقن لغة البيانات الرسمية، بل يجيد لغة الصور والميمات والمحتوى الفيروسي، أي اللغة التي تصل إلى ملايين العقول قبل أن تصل إلى البرلمان أو الصحف الرسمية.

في العمق، ما يفعله هذا الجيل هو إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة. في مدغشقر كانت المطالب بسيطة لكنها رمزية: العدالة والشفافية. في المغرب كانت اقتصادية لكنها حملت بعدًا أخلاقيًا. وفي العراق، كانت وجودية لأنها تمسّ جوهر معنى الوطن ذاته. وهنا تكمن خطورة هذا الجيل بالنسبة للأنظمة التقليدية، لأنه لا يقبل بترقيع الواقع، بل يسعى إلى إعادة بنائه وفق وعي جديد.

لقد ولِد هذا الجيل من رحم العولمة الرقمية، لكنه يختلف عن النمط الغربي في استيعابها؛ فهو لا يستهلك التقنية فقط، بل يوظفها كأداة مقاومة وتعبير ووعي. وبذلك يصبح «جيل العراق الرقمي» جزءًا من حركة عالمية غير معلنة، تتحدى بنى السلطة والهيمنة المعرفية، وتعيد تعريف معنى الحرية والهوية والانتماء.

في النهاية، يمكن القول إن المشهد الذي يبدأ من مدغشقر ويمرّ بالمغرب ليصل إلى بغداد، ليس سلسلة احتجاجات معزولة، بل ملامح لحقبة جديدة من الفعل السياسي والاجتماعي، قاعدتها جيل يعرف العالم من شاشة، ويفهم نفسه من خلال وعي جماعي متصل. هذا الجيل هو وريث عصرٍ لم يعد يُدار فيه العالم بالقوة، بل بالوعي، ولم يعد يُقاس فيه النفوذ بعدد الجيوش، بل بعدد المتابعين، وبقوة الفكرة التي تنتشر كالنار في الهشيم في فضاءٍ بلا حدود.

إن العراق، وهو يعيش تحديات الدولة الحديثة، يقف اليوم أمام فرصة نادرة لإعادة بناء شرعيته السياسية من خلال هذا الجيل الرقمي، الذي لم يعد يطلب موقعًا في السلطة، بل يريد شراكة في صناعة القرار. فبدل أن يُنظر إليه كتهديد، يمكن تحويله إلى طاقة وطنية خلاقة، تؤسس لاقتصاد معرفة حقيقي، وإدارة شفافة، وإعلام تفاعلي يستمد قوته من الوعي الجمعي لا من الولاءات. هذا الجيل الذي صاغ لغته بنفسه قادر على صياغة مشروع الدولة من جديد، بشرط أن تُفتح له المسارات القانونية والتكنولوجية التي تجعله جزءًا من القرار لا مجرد صدى له. فالمستقبل، ببساطة، لن يُكتب بالحبر، بل بالكود الرقمي، ولن تُرسم ملامحه في المكاتب المغلقة، بل على شاشات تتوهج بالأفكار، حيث يتلاقى الوعي بالتكنولوجيا ليولد وطن لا يُدار من فوق، بل يُبنى من الناس ولأجل الناس.

فهل سيستطيع هذا الجيل الرقمي أن يحوّل وعيه وشبكاته العابرة للحدود إلى قوة فعلية تغيّر مستقبل الدولة والمجتمع، أم سيظل صدى أفكاره يتردد بين الشاشات بلا أثر ملموس على الواقع؟

اضف تعليق