إن اكثر ما يثير التساؤل في قضية الإبقاء على حالة الهدم لمقبرة البقيع في المدينة المنورة؛ وجود الطوق الكاتم على حجم الخسارة التاريخية والحضارية بسبب تضييع معالم ومشاهد لأئمة عظام، ليس في أعين المسلمين، وحسب، إنما في لدى غير المسلمين ايضاً، فقد أقرّ علماء الغرب بفضل الامام الصادق، عليه السلام، على العالم بما استبقه من العلوم والمعارف، وايضاً والده الإمام الباقر، كما للإمام السجّاد، بصماته الحضارية في الثقافة الانسانية، برسالة الحقوق المعروفة لدى الجميع، فيما الامام الحسن، قدم للعالم صورة مشرقة للتغيير السلمي دون إراقة الدماء. وهؤلاء الأئمة المعصومين، عليهم السلام، هم من أهل بيت النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وان النبي الأكرم، ومن بعده العديد ممن حكموا وقادوا البلاد والعباد، شهدوا تشييد المراقد والمزارات، ولم يعترض عليها أحد، حتى ظهرت ما يسمى بـ "المملكة السعودية" فكان أول عمل في تاريخها هو إزالة المعالم الأثرية لأئمة أهل البيت، عليهم السلام، بدعوى حرمة البناء على القبور.
ربما يقول البعض؛ إن هذه القضية محسومة لدى رجالات الدولة السعودية وايضاً رجالات الدين لديهم، فهم لا يرون في مقبرة البقيع - بالأساس- ما يتعلق بهويتهم وثقافتهم، وذلك بدوافع عديدة، ليس أقلها الكراهية والحقد على أهل البيت، عليهم السلام. بيد أن القضية لا تنتهي بهذه السهولة، إذ أنها ليست شخصية بين فئة حاكمة او مجموعة من المتشبهين بالعلماء، وبين التاريخ الاسلامي، إنما يتعلق الأمر بشعب كامل وأمة بأسرها. ربما توهّم حكام السعودية أنهم بإبقاء قبور أئمة البقيع مهدمة، التقليل من وجود الحضاري في نفوس الامة ومسيرتها، بيد ان الجهد المبذول في إحياء هذا الوجود حال دون ذلك، بفضل العلماء والخطباء والباحثين. بيد أن هذا لم يحل دون وقوع الخسارة الكبيرة في كيان الامة المترامية الأطراف، لذا يمكن رصد حجم الخسارة التي تسببت بها هذه الجريمة، مستهدفةً أمرين؛ – من جملة أمور- الأول: الجانب الانساني، والثاني: الجانب الحضاري.
الخسارة للإنسانية
لو نظرنا الى الازمات الحضارية التي تعيشها الشعوب الاسلامية، لوجدنا أن "الهوية" تقف في مقدمة هذه الازمات، فمن هو "الشعب السعودي"؟ وما هي جذوره التاريخية؟ وهل الأسرة السعودية التي فرضت نفسها على اسم الدولة الحديثة التي أنشئت في أوائل القرن الماضي، قادرة على ان تختزل تاريخ شعب عاش في شبه الجزيرة العربية من أقصى الحجاز الى أقصى سواحل الخليج، طيلة قرون من الزمن؟ وهكذا حال عديد الشعوب الاسلامية، لذا فهي تبحث عن الرموز الثورية والفكرية والإصلاحية، وعن المشاهد والمعالم، وكل ما من شأنه تغذية الهوية الوطنية في إطار البلد الواحد على الأقل. وقد راعت عديد البلاد في العالم، لاسيما المتقدمة منها، هذه القضية والتفت اليها بقوة، فاهتمت بالرموز التاريخية والمعالم الأثرية وجعلتها ضمن المنظومة الثقافية للموطن لديها، وذلك من خلال المناهج الدراسية والترويج كثقافة عامة.
لنلاحظ ببساطة؛ الاهتمام بالأدباء مثل "شكسبير" في بريطانيا والقادة السياسيين في اميركا، مثل "ابراهام لينكولن" الذي يعدونه رائد مكافحة الرق في اميركا. وايضاً فكرة إقامة النصب التذكارية والتماثيل الحجرية والبرنزية لابطال في حروب او علماء او مكتشفين ماتوا قبل عقود من الزمن، بيد وجودهم المعنوي يعني الكثير بالنسبة للأجيال اللاحقة، بما يشكل مسيرة ممتدة للتطور والتقدم.
ثم لنلاحظ الوضع الانساني في بلادنا؛ انه تخبّط فظيع في الهوية حتى الموت، فهذا الانسان السعودي – المثال الأقرب- نراه يدرج في مجتمعه ويتنعم بامكانات دولته، فيتعلم ويتخرّج من الجامعة، وفجأة نراه يعتمر العمامة ويطلق اللحية ويمزق جواز سفره في حفلة جماعية لإعلان الانتماء الى كيان جديد، يعده البديل الأفضل، حتى وإن كانت مهمته قطع الرؤوس وسفك الدماء. والامثلة عديدة على مئات او آلاف من المغرر بهم في تنظيم "داعش" من الذين توهموا بانهم حصلوا على هوية جديدة، بينما ضاعت على هؤلاء والملايين من المسلمين، الهوية الحضارية التي يقدمها أئمة أهل البيت، عليهم السلام، بما تجعلهم قادة وسادة في العالم، كما فعل جدهم المصطفى، صلى الله عليه وآله، صدر الاسلام.
خسارة الحضارة
وهي خسارة اخرى أمضّ من الاولى، لانها تضرب في الصميم، فالشعوب الحيّة والمتقدمة، دائماً هي التي تقف على جذور حضارية عميقة، وبما أن التاريخ جزء من الحضارة، فانه يُعنى باهتمام بالغ ولا يهمل بالشكل الذي نراه في بعض بلادنا، - إن لم نقل معظمها- .
نعم؛ التاريخ متهمٌ بالتحريف وتزييف الحقائق، بيد انه يبقى مرآة لحياة البشر؛ خيرها وشرها. قبيحها وحسنها. كما ان يضم المنجزات والمكتسبات في جوانب عديدة، وهذا ما يمكن الاستفادة منه، فهنالك العلوم والمعارف والفنون والآداب، كما هنالك المعالم الأثرية والتاريخية التي تقرّب المنجزات الى الاذهان، لان "الذي يغيب عن العين يغيب عن القلب ايضاً"، كما يقول سماحة الفقيه الراحل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي – قدس سره- في حديث حول هذا الموضوع. فاذا كانت هنالك معالم وآثار يفتخر بها الشعب الصيني او الشعب الياباني او الشعوب الاوربية وغيرها في العالم، فان المسلمين أحق وأولى بأن تكون لهم معالم حضارية، وليست تاريخية فقط، لرموز يمثلون – بالحقيقة- ينابيع العلوم والمعارف والآداب، والسبب يقرّه علماء الغرب والشرق، في الحقائق العلمية التي توصلوا اليها، واتصالها بالاسلام وبالأئمة المعصومين، عليهم السلام. فالحياة الاجتماعية والاقتصادية السليمة والمنظومة الاخلاقية، والنظام الصحّي وغيره كثير، يعود بالأساس الى حياة النبي الأكرم، والأئمة من بعده، عليهم السلام.
من هنا؛ فإن اول تفسير يمكن استنباطه من الإصرار على بقاء مقبرة البقيع مهدمة، حرمان شعوب الجزيرة العربية، ثم الشعوب الاسلامية ايضاً من كنوز حضارية عظيمة. وربما تكون هذه الكنوز خطراً ماحقاً على وجود النظام الحاكم الذي يتصور انه ولي نعمة الناس، وانه يمثل ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، فاذا شيّدت المراقد في البقيع على غرار ما موجود في مدن ايران والعراق، فان مصدر العطاء وعوامل التقدم ستعود الى هذه المشاهد المشرفة، عندما يأمّها الملايين من جميع انحاء العالم، وربما من جميع الاديان، و ستكون مناسبة لمزيد من التعرّف على الأئمة الاربع، عليهم السلام، وايضاً على سائر الشخصيات الاسلامية الكبيرة التي كان لها الدور الفاعل في انتشار ورفعة الاسلام، مثل حمزة ابن عبد المطلب، وأبو طالب وغيرهم كثير. وبالنتيجة يكتشف الناس الجميع، خواء القصور وحقيقة الحكام البشعة.
اضف تعليق