المتورط بأفكار متناقضة وغير أصيلة، فانه يعمد الى خطّة يعدها ذكية تتشكل من خطوتين؛ الاولى: إخفاء حقانية الطرف المقابل، والخطوة الثانية: الاجهاز عليه والتخلص منه، وهذا ليس من ابتكارات المبدعين اليوم، إنما يعود الى أيام بزوغ فجر الاسلام، وما خاضه رسول الله من صراع مرير مع مشركي مكّة، كان التكذيب، والتحريف...
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}
الايمان، والشجاعة، والثقة بالنفس، صفات من يكون الحق والصواب طريقه، فهو لن يخشى أحداً لانه مؤمن بما يقول، ولا يشك في منهجه وطريقة حياته وتفكيره قيد أنملة، فهو واضح وصريح في أفكاره وعقائده مع الآخرين، لا يجد حاجة للمصانعة، والمداهنة.
أما المتورط بأفكار متناقضة وغير أصيلة، فانه يعمد الى خطّة يعدها ذكية تتشكل من خطوتين؛ الاولى: إخفاء حقانية الطرف المقابل، والخطوة الثانية: الاجهاز عليه والتخلص منه، وهذا ليس من ابتكارات المبدعين اليوم، إنما يعود الى أيام بزوغ فجر الاسلام، وما خاضه رسول الله من صراع مرير مع مشركي مكّة، كان التكذيب، والتحريف، أشدّ من التنكيل الجسدي، فهي حرب نفسية مرهقة، فهو، صلى الله عليه وآله، لم يعاقب أحداً ضربه، وأهانه، وحتى من قتل عمه حمزة؛ ذراعه الأيمن في الحروب والشدائد، بينما هدر دم عدداً ممن مارسوا الهجاء والسخرية ضده –هذا من نافلة القول-، وعندما واجه النبي اقتراح المشركين بالحل الوسط بأن يعبد هو الاصنام، لفترة من الزمن، وهم يعبدون الله لفترة اخرى فجاء الجواب القاطع من السماء: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}.
لغوياً؛ كَفَر، تعني السِتر والإخفاء، "كفر الشيء، كفر على الشيء؛ ستره وغطاه، كفَر الزارع البذر بالتراب"، (معجم المعاني الجامع)، في حين يشيع المعنى الاصطلاحي للمفردة في الاوساط الثقافية والسياسية بأنه مدعاة للكراهية والارهاب والعنف طائفياً داخل الأمة، وبات من يقول لشخص آخر بأنه "كافر"، تكفي القائل تهمة الارهاب و"التكفير"، وربما إلقاء القبض عليه وإدانته في المحاكم، بينما هنالك من تنطبق عليهم المفردة (الكفر) عندما يتسترون على حقائق الاديان والحضارات مستفيدين من تجارب الأسلاف في دفع التهمة وتنزيه الساحة، وعندما يكون الحق شجرة باسقة متجذرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، يسعون لتشويه صورتها بمختلف الاساليب، مثل؛ حقيقة الأخلاق، وحقيقة الصراع بين الحق والباطل، وحقيقة الموت والحياة الزائلة مقابل الحياة الأبدية والنعيم الدائم.
وهذا ما كرّس في الواقع الثقافي العالمي وجود الجبهتين؛ الإيمان بالله وبقيم السماء، وجبهة الكفر بهذه القيم واستبدالها بقيم مادية وتصورات بشرية، "فالذي يستر الحقيقة، وأجلى الحقائق، ويكابر ويعاند، في جبهة، وأنا في جبهة أخرى، وإنني لا أتراجع لأكون مثل ذاك الشخص الجاهل الذي يعرف الحقيقة، لكنها يسترها ويكابر ويتجاهل"، (بحوث في العقيدة والسلوك- آية الله السيد مرتضى الشيرازي، عن لسان حال النبي الأكرم، في توضيح الآية الآنفة الذكر).
العجز عن الاستدلال العلمي والعقلي
لننظر الى الاحكام والقوانين المسنونة في العالم، وما اذا ضمنت للبشرية الأمان والحرية والرفاهية، فهل قانون الربا في البنوك العالمية ونظام الفائدة وفّر الراحة النفسية، فضلاً عن حماية دخل الفرد في ظل مشاق الحصول على فرص العمل، بل والحصول على لقمة العيش، وما الأزمة المالية في اميركا عنّا ببعيدة، عندما وجدت آلاف الأسر فجأة أنها منازلها خرجت من ملكيتها وانتقلت الى ملكية المصارف والبنوك بعد انهيار اسعار العقارات. وفي أحسن الفروض يجعلون الانسان يعيش في بيته وهو مدين للبنوك طوال حياته، وربما بعد مماته لامتدادها الى عشرين او ثلاثين سنة.
وكذا الحال بالنسبة لقضية تحديد النسل المثيرة للجدل، والتي لم يتسالم العلماء والخبراء يوماً على صحتها وجدوائيتها، حتى الصين؛ البلد المصنّع الأول في العالم، والفخور بقدراته العلمية والصناعية، عدّل من قانون تحديد النسل بعد اقترابه من شبح الشيخوخة المهددة لليد العاملة النشيطة، فأطلق الحرية لانجاب اثنين بدلاً من واحد طيلة عقود من الزمن، أما الدول الاوربية التي رفعت لواء تحديد النسل في العالم، فهي في متورطة مع شريحة واسعة من المسنين والعجائز، يملئون الحدائق و دور العجزة، الامر الذي اضطر المعنيين اللجوء الى اليد العاملة المهاجرة تحت شعار التضامن مع "قضايا الاضطهاد والقمع في الشرق الاوسط"، لتحصل على أيدي عملة رخيصة.
أما في الجانب الاجتماعي فان المآلات المفجعة تملأ وسائل الاعلام، وإن كانت بعيدة عن المخاطب العربي الذي تحاصره الشاشات السياسية من كل جانب، فلا يرى سوى الحروب، والازمات السياسية، واسعار النفط واخبار البورصات العالمية، والكوارث الطبيعية، فلا يرى ويسمع ما يقارن به بين وضعه المعيشي والاوضاع المعيشية للشعوب الاخرى، فبعد العزوف عن فكرة الزواج وتشكيل الأسرة، والتخبط في مستنقع الاجهاض ومضاعفاته النفسية على النساء والفتيات، اصبحت الشعوب الاوربية والغربية أمام تحدٍ غريب يهدد نسيج الحياة الاجتماعية، وهي فكرة زواج المثليين، ومحاولة تطبيعه في الواقع الاجتماعي، على أنه نوعاً من الحرية الفردية (الشخصية)، و"لإيجاد بديل عن الفشل في الحياة الجنسية بين الذكور والإناث".
كل هذا وغيره بعيداً عن أي استدلال علمي او عقلي على صحة ما يذهبون اليه، وقد كشف هذه الحقيقة مبكراً المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه الرائع "الصياغة الجديدة" في مطلع الثمانينات عندما صرّح بأن "العالم غير سليم الصياغة، عندما يتسببون بالأمراض ويبذلون الجهود والاموال لتحقيق التقدم العلمي في الطب، او يخلقون الحروب ويصنعون الاسلحة الفتاكة ثم يتحدثون عن السلام العالمي"، واليوم يتحدثون عن محاربة الارهاب بلا أي إحراج أمام عقلاء العالم.
إخفاء حقيقة التطاول على الشعوب
لعب الإعلام دوراً ناجحاً بامتياز في تصوير الغرب؛ بأفكاره، ومنجزاته، على أنه طريق السعادة الوحيد للبشرية، وكل ما تعيشه الشعوب من أزمات ونكبات فهي؛ إما من صنع الحكام، او من صنع الناس انفسهم، فلماذا يتعب البعض انفسهم بإلقاء المشاكل على الآخرين؟!
بيد أن الحقيقة تقول أن "العالم مقسّم في المنطق الغربي الى شمال وجنوب، وهم أصلاً يعتقدون بنظرية قالها بعض حكمائهم وفلاسفتهم –وإن كانوا يحاولون ان يخفوها- نظرية "قارب النجاة"، والتي تقول بأن العالم الغربي هم شعب الله المختار، فهم في قارب نجاة، وهم دعاة وحماة حقوق الانسان، وتجلي رحمة الله –تعالى- في الكون وفي البشرية"! يقول آية الله الشيرازي في كتابه المشار اليه، وهذا ما يردده الرؤساء الاميركييون دائماً بأن "الولايات المتحدة لديها مسؤوليات كبيرة في العالم"، بما يسوّغ لها شرعية الوجود العسكري والاقتصادي في بقاع عديدة من الارض.
إن تقنية الاتصال والاعلام بالسرعة الفائقة حالياً تسبب – فيما تسببت به- بانتشار أخبار الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية لشعوب الغرب، وانتشار ارقام الانتحار، والعنف بين صغار السن، والاجهاض، والبطالة، وحتى بعض تفاصيل مكائد السياسة الغربية إزاء البلاد الاسلامية، كل هذا دفع بشريحة من الكتاب والاعلاميين من داخل بلادنا لأخذ زمام المبادرة للدفاع عن حصون الغرب حتى لا تصلها سهام التشكيك والادانة، ثم إظهارها بأنها أرض الاحلام، وكل ما يرجوه الانسان من احترام لحقوقه وكرامته الضائعة في بلده، فعندما يتكلم بالعربية –مثلاً- يختلف تأثيره عما اذا تحدث كاتب او اعلامي بريطاني او فرنسي او اميركي –مثلاً-. هذه المبادرة والراية لم تكن مرفوعة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، علماً أن الانتحار والاجهاض والبطالة وكل اشكال الازمات الاجتماعية والاقتصادية كانت قائمة، إنما بلادنا كانت خامدة تحت وطأة الانظمة الديكتاتورية بأنماطها الحزبية او الفردية مع اعتراف دولي وغربي، بل ومساندة من الجوانب كافة.
من هنا نعرف حكمة تأكيد القرآن الكريم على وجود المنهجين والقطبين المتنافرين على طول الزمن بسبب حالة التستر على الحقائق، والمستمرة حتى اليوم، "لاحظوا الدقة القرآنية الجميلة؛ الله –تعالى- اشار الى فلسفة كل القرارات الصارمة واللاحقة التي تحدد مصير البشرية الى يوم ظهور الامام المهدي، بتعليل واضح وبسيط، ظاهره ليس تعليلاً، ولكن باطنه تعليل {قل يا ايها الكفارون.... فالكافر هو علة اتخاذ هذا القرار، أي انك كافر تستر أجلى الحقائق وأوضحها، لذا انت في شقّ وأنا في شق آخر، نحن في جبهة، وأنت في جبهة اخرى، لكنني لا استطيع ان أكون معك، ولا انت تريد ان تكون معي"، يقول آية الله الشيرازي.
اضف تعليق