وسط ركام الازمات والاسقاطات نردد عبارات مثل: "الله كريم"، و"ان شاءالله"، وهي تكشف عن سلامة الفطرة والحنين الى القوة الأكبر والأعظم للخلاص مما نحن فيه، إنما يحتاج الأمر لمصاديق عملية تعزز الايمان لدينا بأن القوة الحقيقية والدائمة ليست القوى المادية امامنا مهما تغوّلت مظاهرها...
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، (سورة الطلاق، الآية3)
التوكّل على الله –تعالى- من المفاهيم الدينية الداعية لتغليب العوامل المعنوية على العوامل المادية في تحقيق الاهداف وتلبية الاحتياجات، فهي تمثل على طول الخط تحدي كبير للايمان بقوة السماء اللامحدودة مقابل مظاهر قوة مصطنعة وغير حقيقية في الحياة، مثل المال، والسلاح.
البعض يدعو الى "الواقعية" واعتماد عوامل القوة المادية القائمة على التجربة الحسيّة كونها الاكثر ضمانة للفائدة، وذات صلة بارض الواقع بما يستشعره الانسان، وفي فترة زمنية قصيرة لا يضطر صاحبها للانتظار طويلاً، ربما يواجه خلالها مخاطر الخسران لفرص يعدها "تقدمية" نحو واقع أفضل.
ويرى هؤلاء ايضاً؛ أن مفهوم "التوكّل" ربما ينصرف الى "التواكل"، والدفع نحو الاتّكالية والكسل، هرباً من عناء العمل والابداع والابتكار، ويسوقون لهذا أمثلة ممن يطلب الرزق وهو يفتح عينيه صباحاً بعد اربع او خمس ساعات من طلوع الشمس! او يطلب الصحة والعافية وهو يتجاهل أي نظام غذائي صحي، ويعيش بعيداً عن أجواء النظافة التي أكدتها الشريعة والعقل في آن، بدعوى أنه "هو الشافي"!
اعقلها وتوكّل
بيد أن القضية ليست بهذا الانفصام الذي يتصوره البعض، فثمة بلورة لمفهوم التوكّل قدمه رسول الله، صلى الله عليه وآله، في بداية تأسيسه المجتمع الاسلامي في المدينة، عندما جاءه أحد المسلمين وجلس عنده، بعد أن ترك ناقته في باب المسجد، ولما خرج كانت الناقة قد سرحت لوحدها، فاشتكى الرجل الى رسول الله بانه تركها على اسم الله –تعالى- وتطبيقاً لما سمعه من أن ذكر الله والتوكل عليه يغني من كل شيء، فقال له النبي: "اعقلها و توكّل".
هذا الشعار الكبير والعظيم في دلالاته مرّ مرور الكرام –كما يبدو- ولم يتخذه المسلمون حينها منهجاً في حياتهم، وفي طريقة تفكيرهم، نعم؛ ربما استفاد منه ذلك الرجل لوحده، وإلا لما حلّت محلها ثقافة "يكفينا كتاب الله"، من اللحظة التي أغمض رسول الله عينيه ورحل عن دار الدنيا، واستمرت الدواهي والويلات على الأمة لعدم أخذها بنظام الاسباب كما بينه شخص النبي الاكرم في مراحل مختلفة من حياته، لاسيما في ظروف الحرب ومواجهة تحديات المشركين والكفار في مسيرة انتشار الاسلام، فقد عمل النبي، ومن بعده أمير المؤمنين، وحتى الأئمة المعصومين وفق معادلة الاسباب والعوامل الطبيعية والمادية، ولم يجلسوا لتأتي قوى الغيب وتنصرهم و تُعلي شأنهم، او تزيل عنهم مخاطر الأذى والموت، فقد قاتلوا، واصيبوا بجراحات بليغة، واستشهدوا، وقبلها اتخذوا كل الاجراءات العسكرية منها والسياسية والاقتصادية لخلق واقع حسن يتطابق مع اهداف الرسالة.
والغريب أن القرآن الكريم الذي تستر به الأولون –و ربما المتأخرون ايضاً- هو أول ما يدعو الى الاستعداد لخوض المواجهة: {واعدوا لهم ....}، وقوله تعالى: {ثم اتبع سببا}، وآيات وروايات لا تُعد تحث على العمل وبطريقة تنافسية، والكدح، وبذل الجهود لتحقيق الاهداف المرجوة، واذا كان ثمة مجال للتوكل المطلق على الله –تعالى- فهو محددٌ في "أن يكل الانسان ما ليس بيده الى الله تعالى، كما هو من شأن الدعاء ايضاً". (لنبدأ من جديد- الامام الراحل السيد محمد الشيرازي).
التوكل بهذه الطريقة المعكوسة هو الذي خلق للأمة على طول الخط الويلات والكوارث، فهم لم يعتمدوا على قدراتهم وما منحهم الله –تعالى- من نعم عظيمة، في مقدمتها وجود الأئمة من أهل بيت رسول الله بينهم، وهم القرآن الناطق، وترجمانه، والنور الذي يكتشفون به الحق من الباطل، والخير من الشر، والنتيجة؛ استغلال هذه الثغرة من قبل اشخاص ملوثين اجتماعياً ونفسياً مثل؛ الأمويين، واشخاص تمرسوا القتل وسفك الدماء مثل؛ العباسيين ليكونوا للمسلمين مصدر القوة التي يتوكلون عليها ويسلمون اليهم مصائرهم وحتى دينهم.
القوة الأكبر أم الكتلة الأكبر؟!
وسط ركام الازمات والاسقاطات نردد عبارات مثل: "الله كريم"، و"ان شاءالله"، وهي تكشف عن سلامة الفطرة والحنين الى القوة الأكبر والأعظم للخلاص مما نحن فيه، إنما يحتاج الأمر لمصاديق عملية تعزز الايمان لدينا بأن القوة الحقيقية والدائمة ليست القوى المادية امامنا مهما تغوّلت مظاهرها، فهو تنهار وتتلاشى عند هذه الجماعة، وذلك الرمز، لتنمو وتظهر عند آخرين كما هي الحشائش الطبيعية في السهول.
و كما يتمكن افراد المجتمع من كبح جماح النفس من طغيان الأنا، بامكانهم ايضاً صناعة صمام أمان لنظام جدير يحكمهم كالذي يجري الحديث عنه باسم "الديمقراطية"، فالديكتاتورية التي بحث في نشوئها وعواملها، وايضاً طرق مكافحتها الكثير من الباحثين والمفكرين، تتعكز في جانب لها على الاتكالية الجماهيرية عليها، عندما تكون في نظر الناس هي المنقذ والمخلص من الفوضى والاضطراب الامني والسياسي، وحتى الاقتصادي، وهو ما نلاحظه من الرؤية السائدة لدى الكثير.
وهذا تحديداً ما يسعى الديكتاتور لايجاده بكل حرص وصمت، لأن التفكير بمصدر قوة أخرى غيره يعني وجود "عمق استراتيجي" يحتاجه الشعب لدى تعرضه للنكول والخيانة من قبل الحاكم، ومن ثم الاعتقالات والاغتيالات، فيكون القاعدة الرصينة التي ينطلق منها للمعارضة، وربما ينتصر بما تزوده هذه القاعدة من قيم ومبادئ، كما حصل في سنوات المواجهة الدامية بين ابناء الحركة الاسلامية والنظام البعثي في سني السبعينات من القرن الماضي، فقد توكل أولئك الابطال على الله –تعالى- وحده، وانطلقوا لتغيير الواقع الفاسد، فاعطاهم الله تلك الشجاعة التي نقرأها في الحديث الشريف: "من خاف الله أخاف له كل شيء".
وفي الوقت الحاضر من يروم الانطلاق بمشروع تنموي او انتاجي يستثمر فيه كفاءته العلمية، فانه يستعد لكل شيء، ثم يتوجه نحو الحكومة او مؤسسات الدولة لتدعمه مالياً، فيرهن نجاحه بما تقدم له الدولة من دعم مادي او حوافز، ومن دونها يشعر بالاحباط والهزيمة، بينما اذا كان التوجه الى مصدر القوة اللامتناهية في الحياة، والطلب للتسديد، فان النجاح سيكون بشكل لا يمكن الوقوف امامه لأن "ما كان لله ينمو"، والامثلة على هذا في قصص الناجحين من تاريخنا كثيرة، وكانوا ممن يفتقرون الى أبسط مقومات الحياة، من ماء وكهرباء، ووسائل نقل، وامكانات الرفاهية المتعارف عليها حالياً.
وهذا النوع من التوكّل هو الذي يعطي المصداقية لشعارات مثل؛ مكافحة الفساد، ومقارعة الظلم والخيانة حتى في أعلى المستويات بالدولة، ولو بنسبة معينة، وحسب القدرات المتوفرة، فبقدر توكل الناس على الله –تعالى- في أعمالهم وتحركاتهم، يكون التأثير على مصادر القرار في الدولة، وبمقدار تراجع هذا التوكل او اختفائه تكون الهزيمة مستمرة أمام الفساد وسرقة المال العام والتوزيع غير العادل للثروة، مع تكريس ظاهرة الفقر والجهل في المجتمع.
اضف تعليق