أين الرحمة العالمية والمنهج النيّر للحياة الكريمة مما يعيشه العالم اليوم من أزمات ومعاناة، يكاد الانسان – في جميع القارات الخمس- ينتظر الموت في أي لحظة بمرض خطير، او رصاصة اعدام من الحاكم، او سكين من جماعات ارهابية متطرفة، او قنابل وصواريخ من حروب عبثية، الى جانب الموت جوعاً، وحتى الانتحار...
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، (سورة الانبياء، الآية107)
أي نظرية، أو فكرة، أو مشروع يكتب له النجاح والاستمرارية في الحياة، بمقدار سعة أبعاده الانسانية والفكرية، وما يقدمه من منجزات تفضي الى تطوير الحياة ونشر الخير والفضيلة، وكل ما يخدم الانسان ويحقق له السعادة في حياته.
وبالرغم مما قيل في مشاريع تغيير كبيرة شهدها العالم، بأنها خرجت من حدودها الجغرافية لتلامس الحاجات الانسانية في كل زمان ومكان، مثل؛ الانتصار للحرية في الثورة الفرنسية، ومنهج اللاعنف في الهند للتحرر من الاستعمار البريطاني، أو الانتصار للطبقة العاملة والشريحة الفقيرة من خلال تطبيق النظرية الاشتراكية في روسيا، بيد أن حقائق التاريخ تؤكد وجود حاجات أعمق بكثير مما توصل اليه البشر وأجهد نفسه فيه، وهي جهود في حد ذاتها تمثل نضالاً يحسب لاصحابها في يومها، بما يعد حراكاً من اجل التحرر من ظلم الاقطاع، والاستبداد والعبودية.
ولا اعتقد أن شخصيات كبيرة قادت ثورات ومشاريع تغيير عظمى، من أمثال؛ غاندي، أو ماركس، يجهلون شخصية النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، ولم يقرأوا عنه، ويتفحصوا تجربته الرائدة في التغيير والبناء الحضاري، بل وحتى قرأوا القرآن الكريم، و خبروا ما فيه من حِكم، وسُنن، وتعريفات للحياة، والانسان، بما لا يضاهيه كتاب آخر بهذه السعة والشمولية في كل شيء، وهذا ما يؤكد محدودية تلك المشاريع التغييرية بظروفها الزمانية والمكانية، وإن صلحت، فربما لذلك المجتمع في الظروف التي كان يعيشها، بينما مشروع النبي الأكرم، يعرّفه القرآن الكريم بأنه {رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، والعالمين يعني خارج الحدود والأطر، كما يبين المفسرون، وهذا هو الفارق والمائز بين رسالات السماء، وبين رسالات البشر، فالسماء تبعث الرسل والانبياء بأحكام وقوانين وأنظمة مع دراية كاملة بنفوس البشر، فهي دائماً تمثل الرحمة والخير لهم، وتعبر عن ضمائرهم وحاجاتهم الحقيقية، فكانت كلمتهم الاولى والاساس؛ التوحيد، ونبذ الشرك والعبودية لغير الله –تعالى- وفي مقابل الإيمان، يعمّ الخير، والنعيم، والاستقرار، وهذا ما بشّر به خاتم الأنبياء ابناء عشيرته (بنو هاشم) في أول اجتماع بهم بعد بعثته نبياً، فقال لهم: "أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة، وتنجون بهما من النار: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله".
مشروع الرحمة الحضاري
عندما نستذكر شخصيات سعت لمكافحة العبودية في التاريخ الحديث، انما نتحدث عن مشاريع سياسية للتغيير من نظام حكم قائم على التمييز العنصري، الى نظام آخر يتبنى المساواة في اللون والعرق للمشاركة في بناء الدول، كما حصل في اميركا عام 1863 على يد الرئيس لينكولن، وكما حصل في جنوب افريقيا عام 1991 على يد مناضل معتقل لمدة ثلاثين سنة، وهو نيلسون مانديلا، علماً أن هذه النتائج لم يحصل عليها ذوي البشرة السوداء إلا بعد تقديمهم عشرات الآلاف من القتلى على طريق هذه الحرية التي ما تزال فضفاضة حتى اليوم، ولم تتحول الى ثقافة اجتماعية وحضارية.
وقد نقل عن تاريخ تحرير العبيد في اميركا، أن بعضهم كان يعود الى مزرعة سيده متوسلاً اليه إبقائه يعمل أجيراً عنده خيراً له من أن يموت جوعاً من البطالة والتهديد من العنصريين، وفي القرن السابع للميلاد، وعلى يد النبي الأكرم وجد العبيد أمامهم، ليس الحرية وحسب، وإنما نظام حياة متكاملة، فكأن أحدهم يأتي الى النبي يطلب بعض المال، فكان، صلى الله عليه وآله، يحثّه على ما هو أبعد من المال، مثل؛ الزواج! مما كان يثير استغراب الجميع، وعندما يجربون ما يدعوهم نبيهم اليه يزول العجب، ويجدون الخير والبركة والتحول الكبير في حياتهم، من العوَز، والفاقة، والتهميش، الى الحصول على فرصة العمل والعيش الكريم.
إن تحول انسان مثل أبو ذر الغفاري من عنصر ضمن عصابة قطاع طرق في الصحراء، لا يفقه من الحياة شيء، الى ملهم للمفكرين الأدباء والعلماء في مكافحة التمييز الطبقي، والنضال من اجل المساواة والتوزيع العادل للثروة، يمثل لوحده، منجزاً حضارياً فريداً لم يشهده التاريخ قط.
هذه الرحمة العالمية ليست كما نفهمها اصطلاحاً اليوم، بأنها تشمل جميع دول العالم، كما نصف شخصية سياسية، أو رياضية، او فنية، أو أدبية، بانه "عالمي"، بل هي الرحمة التي تشمل عالم الحيوان، والنبات، والتربة، والبحار، ولطالما أكد وأوصى النبي الأكرم على تجنب أي عمل يؤذي الحيوان، ويسيئ الى الطبيعة بشكل عام. وما وصلنا من السيرة النبوية يكون من آلاف الشواهد التي أخفاها التاريخ عن كيفية تعامل النبي مع العوالم من حوله، من الهرة التي تركها نائمة على ردائه، والكبش الذي أطعمه نواة التمر بظاهر كفّه الشريف تكريماً وتعظيماً للنخلة، وسؤاله عن أحوال ديك في أحد البيوت ولماذا يعيش لوحده! والنهي المتكرر عن قطع الاشجار الطرية مهما كان السبب.
هذه الجزئيات التي لا يلتفت اليها أحد طيلة القرون الماضية، حتى ظهر في القرن العشرين، أي بعد حوالي اربعة عشر قرناً من الزمن، وفي بلاد الغرب، منظمات ومؤسسات تدافع عن البيئة، وعن الحيوان، وعن الطفل، وعن المرأة، ثم يتذكر المسلمون فجأة كمن ينتفض من نوم عميق، ونرسل المديح والاطراء على عمل هذه المنظمات، بل ويدعو البعض منّا لأن نتعلم منهم حتى نلحق بحضارتهم!
الأمن للجميع
النبي الأكرم، بعد هجرته الى المدينة، كان بصدد تأسيس أول دولة قائمة على القيم السماوية، فكانت البداية في تشييد دار العبادة (المسجد)، ثم دور الاصحاب التي تسوّرت المسجد، بل وحتى فكّر بشريحة المعدمين والفقراء من المسلمين ممن تركوا أهلهم وسكناهم أملاً بالدين الذين ينقذهم من العبودية والبؤس والمعاناة، فخصص لهم مكاناً الى جوار المسجد يسكنون فيه، ثم كان مشهد المؤاخاة الشهيرة في التاريخ وفي صفحات الحضارة الاسلامية، وكان لابد من معالجة وصمة الوباء العالقة بهذه المدينة (يثرب)، فكان الاسم دلالة على المرض، وجاء في التاريخ أن أبرز مرض عانا منه الناس؛ الملاريا بسبب انتشار البعوض لكثرة المستنقعات، فأمر النبي فوراً بردمها من خلال نقل تراب تلّة قريبة، و بذلك قضى على الملاريا لتتحول يثرب الى المدينة.
وعلاوة على كل ذلك، فانه، صلى الله عليه وآله، يتطلع الى ركن أساس في هذه الدولة لتكتسب المزيد من القوة والاستقرار بتوفير الأمن لجميع الساكنين في هذه المدينة من مسلمين وغير مسلمين، وتحديداً؛ قبائل اليهود، وهم؛ بني النظير، وبني قينقاع، وبين قريظة، بإظهار الودّ لهم ولزعمائهم على أنهم من أهل الكتاب وموحدون، وذلك من اجل تحييدهم وعدم انزلاقهم في تحالفات مع المشركين والقبائل العربية الاخرى المعادية، ومن ثمّ ضمان الجبهة الداخلية والتفرّغ للتحديات الخارجية، وهو تجسيد "للعمل السياسي الجلييل حقاً والذي يدل على عظم الاقتدار، ذلك ما وصل اليه محمد، صلى الله عليه وآله، من تحقيق وحدة يثرب ووضع نظامها السياسي بالاتفاق مع اليهود على أساس متين من الحرية والتحالف"، (حياة محمد- محمد حسين هيكل).
ولكن اليهود الذين خاب ظنّهم بظهور نبي آخر الزمان من العرب، وليس منهم (بني اسرائيل)، لم يرق لهم كل التودد والتلطّف من النبي، بل وحتى معاهدة التسامح وحسن الجوار التي تمثل "وثيقة سياسية جديرة بالاعجاب على مر التاريخ، بما لم يسبقه اليه نبي أو رسول"، وفي كتابه سيرة المصطفى، أورد السيد هاشم معروف الحسني، نصّ المعاهدة الواردة في كتب السِير، وهي مشحونة بقيم أخلاقية وانسانية عالية تشمل الحرية، والأمن، وحفظ الدماء، ونبذ الظلم والبغي، "ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإن من تبعنا من اليهود فإن له النصر والأسوة (المساواة في المعاملة).
هذه المنظومة الاخلاقية، تتقاطع مع المنظومة الاقتصادية لليهود والقائمة على الربا، والجشع، والغش، والخداع، والفجور، فاذا التزموا بكل ورد في المعاهدة، فهذا يعني أن يكونوا مسلمين وينتهي الأمر! وهذا دفعهم لأن يعودوا الى حقيقتهم، وهويتهم المعقدة عبر التاريخ، وحصل ما حصل من تحالفات مع المشركين، وقبلها ممارسة الاعمال العدائية الى جانب المنافقين لضرب الاسلام من الداخل، مما جعلهم هدفاً سهلاً للمسلمين، ويفتقدوا لتلك الفرصة التاريخية بالعيش بأمان وكرامة الى جانب المسلمين والنبي الأكرم.
هذا ما قدمه النبي الأكرم للعالم، بل وللعالمين جميعاً، وهي غير العالم المحدود الذي يعيشه الانسان ويستشعره بحواسه الخمس، منها؛ عالم الأصلاب التي تولّد النطفة، وما يأتي بعدها من عالم الأجنة، وكيف أن النبي الأكرم يحرص على أن تكون بأفضل حال، ولا تسبب المتاعب والمشاكل للانسان، ضمن برنامج صحّي واجتماعي متكامل، الى جانب رعايته لعالم البرزخ (القبر)، وعالم الآخرة، ويوم القيامة والحساب بين يدي الله –عزّوجل-، حيث يكون الشفيع المشفّع.
ولنا أن نتسائل في الختام؛ أين هذه الرحمة العالمية والمنهج النيّر للحياة الكريمة مما يعيشه العالم اليوم من أزمات ومعاناة، يكاد الانسان – في جميع القارات الخمس- ينتظر الموت في أي لحظة بمرض خطير، او رصاصة اعدام من الحاكم، او سكين من جماعات ارهابية متطرفة، او قنابل وصواريخ من حروب عبثية، الى جانب الموت جوعاً، وحتى الانتحار؟!
فيما مضى من الزمن كانت رؤية الناس في العالم الى الظواهر هي معيار النجاح والتفوق، مثل الطرق والمواصلات السريعة والجميلة، والبنايات الشاهقة، والسيارات الحديثة، و تنوع الاثاث البيتي، ثم تقنية الاتصال الحديث، ولكن موجة شديدة العصف، مثل جائحة كورونا، كانت مثل المطر الغزير الذي أزال المساحيق عن وجه الحضارة الغربية ليظهرها على حقيقتها وكيف أنها آيلة للانهيار كما تنبأ وكتب المفكرون الغربيون انفسهم، ومنهم؛ جاك أتالي، السياسي الفرنسي والخبير الاقتصادي المعروف بتنبؤاته الدقيقة، ففي كتابه "من يحكم العالم"، عدّ المنهج الاقتصادي الخاطئ السبب في مشاكل العالم، و"أن اقتصاد السوق والديمقراطية قد اتحدا لتشكيل آلة جبارة تساند وتطوّر التقدم الإنساني، وهاتين القيمتين عاجزتان عن ضمان بقاء أيّ حضارة إنسانية"، في حين إن الحقيقة الغائبة، او المغيبة، عجز الحضارة الغربية عن صناعة الانسان، بعد أن حققت النجاحات الباهرة في صناعة كل شيء، فكل ما صنعوه وأبدعوه لم يحقق لهذا الانسان السعادة والأمن والاستقرار.
يكفي مثال بسيط واحد من احدى مستشفيات السويد، والحكاية قبل سنوات، وقبل أن يشك أحد بسلامة ونزاهة الحضارة الغربية، عندما ذهب صديق لي بزوجته الحامل لاجراء فحوصات روتينية، فتحدث لي عن طيب التعامل والابتسامات الملتصفة بأفواه الممرضات والاطباء، ولكن صدمته الشديدة كانت بغياب كل هذا التودد والابتسامة، وتحول الممرضات الى فتيات ربما من نمط الخارجات للتو من النوادي الليلية من شدة البؤس والمهانة، فسألهن عن السبب في هذا التحول فيما كان يطلب المساعدة، فكان الجواب: لقد انتهى الدوام!
اضف تعليق