هل شخصية الإنسان وسلوكياته في مجتمعنا تخضع لتفكيره الداخلي فقط، أو يفرض المجتمع سواء كان متدينا أو غير متدين سلوكيات أخرى يقوم بها الفرد دون أن يشعر؟ البيئة الاجتماعية عادة لها دور كبير بسلوكيات الفرد الواحد وهذه السلوكيات تنعكس ربما على أسرته الصغيرة والتي تعتبر...
كل إنسان سوي يتطلع إلى حب الخير والكمال، ويهرب من النقص، ويحاول أن يلتصق دائماً بما هو خير له. فهو شيء فطري ومغروز في أعماقه بدون أن يكتشف ذلك. ومن الأمور الكمالية التي يحاول أن يضفيها على شخصيته: السمعة الطيبة، والمكانة المرموقة بين الناس، التي تدفعه إلى نيل المكرمة وكسب الذكر الحميد بين أفراد المجتمع.
يتطلع كل إنسان سوي إلى التكامل في الأخلاق وتحصيل السمعة الطيبة ونيل المكانة المرموقة بين الناس، فهذه حاجة نفسية أصيلة في كل فرد، وهذا يتحصل عن طريق قيامه بالأعمال الحسنة والأفعال الطيبة، التي تعود عليه بحسن العاقبة في رضا الله عنه، وتأييد أفراد المجتمع ومصادقتهم على كل ما يصدر عنه من انجازات وأعمال باهرة، وكلما حظي المرء باحترام الناس قويت روحه المعنوية، فدفعته من نجاح إلى نجاح آخر وأكبر.
وكلما استطاع الإنسان أن يألف الجماعة ويبادلها المودة ويشارك في سرّائها وضرّائها، كلما ظهرت تلك الشخصية القوية في حياته التي تولد عنده نوعاً من الاطمئنان النفسي والاستقرار الروحي.
لكن هل شخصية الإنسان وسلوكياته في مجتمعنا تخضع لتفكيره الداخلي فقط، أو يفرض المجتمع سواء كان متدينا أو غير متدين سلوكيات أخرى يقوم بها الفرد دون أن يشعر؟
البيئة الاجتماعية عادة لها دور كبير بسلوكيات الفرد الواحد وهذه السلوكيات تنعكس ربما على أسرته الصغيرة والتي تعتبر جزء من المجتمع الواسع وهذه السلوكيات تنتقل تدريجياً الى ابناءه وهكذا الى أجيال لاحقة ضمن النطاق الاسري، فلو كانت البيئة الاجتماعية تساعد على التطرف والانغلاق على الآخر المختلف، فبالتأكيد ستساهم ببناء أفراد متطرفين ومنغلقين عن أي أفكار أخرى قد تكون في صالح هذا الفرد وأسرته وقد تساهم بتنمية فكره وفهم آخر لدوره في الحياة.
سنورد في هذا المقال بعض النماذج من التدين للأفراد في المجتمع المسلم، وهل الدين فقط هو من يصقل شخصية الفرد أم أن العادات والتقاليد لها الدور الأكبر في سلوكياته؟
1- التدين المعرفي: هنا ينحصر التدين في دائرة المعرفة حيث نجد الشخص يعرف الكثير من أحكام الدين ومفاهيمه ولكن هذه المعرفة تتوقف عند الجانب العقلاني الفكري ولا تتعداه إلى دائرة العاطفة أو السلوك فهي مجرد معرفة عقلية مادية وبعض هؤلاء الأشخاص ربما يكونون بارعين في الحديث عن الدين ومع هذا لا يلتزمون كثيراً بتعاليمه في حياتهم اليومية.
2- التدين العاطفي: في هذه الحالة نجد أن الشخص يبدي عاطفة جارفة وحماسا كبيرا نحو الدين، ولكن هذا لا يواكبه معرفة جيدة بأحكام الدين أو فهم معتدل للموروث الديني بشكل عام، وهذا النوع ينتشر في الشباب خاصة "حديثي التدين"، وهي مرحلة يجب إكمالها بالجانب المعرفي والسلوكي حتى لا تطيش أو تتطرف أو تتلاشى أصلاً.
3- التدين السلوكي: وهنا تنحصر مظاهر التدين في دائرة السلوك، حيث نجد أن الشخص يقوم بأداء العبادات والطقوس الدينية ولكن بدون معرفة كافية بحكمتها وأحكامها ودون عاطفة دينية تعطي لهذه العبادات معناها الروحي، فقط يؤدي هذه العبادات كعادة اجتماعية تعودها.
4- التدين النفعي: في هذه الحالة نجد أن الشخص يلتزم بالكثير من مظاهر الدين الخارجية للوصول إلى مكانة اجتماعية خاصة أو تحقيق أهداف دنيوية شخصية وأصحاب هذا النوع من التدين (أو التظاهر بالتدين) يستغلون احترام الناس للدين ورموزه فيحاولون كسب ثقتهم ومودتهم بالتظاهر بالتدين والشخص في هذه الحالة يسخر الدين لخدمته وليس العكس، وتجده دائما حيث توجد المكاسب والمصالح الدنيوية الشخصية وتفتقده في المحن والشدائد.
5- التدين التفاعلي: نجد هذا النوع من التدين في الأشخاص الذين قضوا حياتهم بعيدا عن الدين، وفجأة نتيجة تعرض احدهم لموقف أو حادث معين، نجده قد تغير من النقيض إلى النقيض، فيبدأ في الالتزام بالكثير من مظاهر الدين، ويتسم تدينه بالعاطفة القوية والحماس الزائد، ولكن مع هذا يبقى تدينه سطحي تنقصه الجوانب المعرفية والروحية العميقة، وفي بعض الأحيان يتطرف هذا الشخص في التمسك بمظاهر الدين حفاظا على توازنه النفسي والاجتماعي وتخفيفا للشعور بالذنب وهذا النوع خطير جداً ومن الصعب التكهن بسلوكياته.
6- التدين الدفاعي: قد يكون الدين دفاعا ضد الخوف أو القلق أو الشعور بالذنب أو تأنيب الضمير أو دفاعا ضد القهر والإحباط، وفي هذه الحالة يلجأ الفرد الى التدين ليخفف من هذه المشاعر ويتخلص منها، وكلما زادت هذه المشاعر قوة كلما كان اتجاهه للدين أقوى. ويحدث هذا النوع أيضا في بعض الأشخاص الذين يشعرون بالعجز في مواجهة الصعوبات التي عجزوا عن مواجهتها، فنجد الشخص من هؤلاء قد أهمل دراسته أو عمله أو مسؤولياته وتفرغ لممارسة بعض الشعائر الدينية التي لا تتطلب جهدا أو مشقة وهدفه غير المعلن من ذلك هو تغطية قصوره وعجزه والهرب من مواجهة الواقع. فثقافة التدين في فهم البعض هي في الشكل لا المضمون.
إن الإلتزام بالدين هو سلوك وتطبيق، هو قول وفعل، هو ممارسة صادقة لما استقر في الفؤاد من حب للدين. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم".
نشاهد الكثير ممن يطلقون لحاهم ويهتمون بصور نمطية عن التدين ويشدون الرحال للاماكن المقدسة وممارسة العبادات والطقوس الدينية، ثم نجده يخفق في التعامل الحسن مع والديه أو ابناءه وجيرانه ومجتمعه، ويغش الناس في المعاملات، ويكذب ويسرق ويكيد للناس، وهو بهذا لا يحمل روح الدين والفطرة الانسانية وهذه النماذج أفرزت ردة فعل في المجتمع فتولّد الكره والبغض والنفرة لكل ما يمت للدين بصلة، ونحت في الأذهان صورة قاتمة عن الدين وأهله.
إن التدين يكون في صور ظاهرة وصور مستترة، التدين يكون بطاعة الوالدين والإحسان إلى الزوجة، والتعامل الحسن مع الناس والصدق والأمانة والوفاء بالعهد، ومد يد العون للمحتاج، والتبسّم في وجه الناس، والكرم والإيثار، وصلة الرحم، وغيرها الكثير.
القرآن الكريم ركز كثيرا على تقوى القلوب، وعلى أن التحصيل يوم القيامة هو تحصيل لما في الصدور أي لما في النفس وليس لظواهر الأمور.
عن الإمام الباقر (ع) عن رسول الله (ص): «لم يعبد الله عزوجل بشيء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلا حتى يجتمع فيه عشر خصال: الخير منه مأمول والشر منه مأمون، يستكثر قليل الخير من غيره ويستقل كثير الخير من نفسه، ولا يسأم من طلب العلم طول عمره، ولا يتبرم بطلاب الحوائج قبله، الذل أحب إليه من العز والفقر أحب إليه من الغنى، نصيبه من الدنيا القوت، والعاشرة وما العاشرة لا يرى أحدا إلا قال: هو خير مني وأتقى، إنما الناس رجلان: فرجل هو خير منه وأتقى، وآخر هو شر منه وأدنى، فإذا رأى من هو خير منه وأتقى تواضع له ليلحق به، وإذا لقي الذي هو شر منه وأدنى، قال: عسى خير هذا باطن وشره ظاهر وعسى أن يختم له بخير، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده وساد أهل زمانه».
اضف تعليق