قدرة أي أمة في تحقيق قوتها ورقيها هو في قدرتها على استيعاب الآخرين وضمهم في مسيرتها وتحقيق الوفاق الجماعي الشامل. وان عجز أي امة يتبين من نبذها للآخرين وتشتيت أفرادها، لان التعامل الإيجابي والمتفهم مع الآخر هو العنصر الأساسي في حركة التاريخ المتقدمة نحو المستقبل، وأن حركة الإنسان لا تتكامل...
عقد مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث حلقة نقاشية في ملتقى النبأ الأسبوعي حول (إدارة الاختلاف بين التواصل والقطيعة)، شارك في الملتقى عدد من الكتاب والباحثين ذوي التوجهات المختلفة.
وجاء في نص الورقة التي نوقشت قدمها واعدها الباحث في المركز محمد علاء الصافي:
العلاقات لا تخلو من الاختلافات سواء كانت هذه العلاقات إنسانية أو علاقات سياسية، التعامل مع الاختلافات فن يحتاج إلى كثير من الحصافة وبعد النظر لكيلا تتطور الاختلافات إلى خلافات، ومن ثم الى صراعات تؤدي حتماً الى القطيعة.
لا مجال لأي أحدٍ منّا أن ينكر أن الوضع الإنساني مشحون بالاختلافات التي قد تؤدي الى خلافات لا يمكن تفاديها حتى لو اتبعنا أفضل الأساليب تقنية، لأن طبيعة اختلاف الأذواق والمشاعر والتفكير والمصالح والأهداف وغير ذلك بين البشر تفرض هذا اللون من الحياة ولعلّ هذا سببا للقضاء على الرتابة في الحياة أو الفتور في العمل أو الملل من النمط الواحد بل هو سرّ من أسرار التقدم والسعي نحو الأفضل، كما هو المستفاد من جملة من الآيات والروايات ولعلّ قوله سبحانه: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) يتضمن الإشارة إلى هذا المضمون.
يحفل التاريخ البشري بأحداث مأساوية خلفت تراكمات كبيرة في حدود النفس البشرية حيث رسخت ثقافات سلبية لا زالت مشتعلة ليومنا هذا. فقد كان محور التاريخ هو تلك الصراعات العنيفة الدامية التي خاضتها المجتمعات والأمم والأفراد تفوق الوصف والخيال في وصفها حتى تقترب إلى مرحلة الجنون، فالتاريخ البشري تاريخ مجنون كتب بالدم وخط بالسيف وسطر بالمقابر.
قد يعبر الصراع البشري عن صراع على المصالح أو نزاع على الأرض أو استغلال للقوي على الضعيف وهو صراع قد يبرر بأنه صراع تفرضه غريزة حب البقاء أو قانون البقاء للأصلح، ولكن الأخطر من ذلك على مر التاريخ هو الصراع الذي تلون بالأيديولوجية فصبغ معاركه بالمبادئ والقيم لتصبح سيفا يقطع رؤوس المخالفين والمعارضين، وهذا هو أسوء الصراعات البشرية.
ان القراءة التاريخية لمعظم الأمم والحضارات تعطينا نتيجة واضحة وهي ان الأمم التي استطاعت ان تتقدم وتتطور وترتقي سلم الحضارة هي الأمم التي استطاعت ان توجد حالة التجانس والتعايش والتفاهم بين مختلف الفئات والقوميات والطوائف والأديان وفي مختلف جوانبها النفسية والاجتماعية والسياسية بحيث كتب لها البقاء التاريخي على مرور الأجيال لقدرتها على تحقيق الوفاق الإنساني والسلام العام. وهكذا أمة فإنها تستطيع ان تجمع النسيج البشري في اطر متوافقة من اجل البناء المشترك والحياة السليمة والعدالة العامة بعيدا عن الحرب والقتل والعنف.
أما الأمم التي غرقت في صراعاتها وخلافاتها السلبية فقد تحولت إلى فتات مهمش لا يقوى على تجميع أجزائه حتى تقضي عليه قوانين التاريخ القاسية، وقد رأينا كيف سقطت الأمم عن عليائها نتيجة لذلك التعصب والتمرد ضد الآخرين بحيث تتحول حياة تلك الأمة إلى جحيم ملتهب لعدم قدرتها على التفاهم والتعايش.
ان قدرة أي أمة في تحقيق قوتها ورقيها هو في قدرتها على استيعاب الآخرين وضمهم في مسيرتها وتحقيق الوفاق الجماعي الشامل.
وان عجز أي امة يتبين من نبذها للآخرين وتشتيت أفرادها، لان التعامل الإيجابي والمتفهم مع الآخر الفكري أو المذهبي أو الديني أو القومي.. هو العنصر الأساسي في حركة التاريخ المتقدمة نحو المستقبل، وأن حركة الإنسان لا تتكامل عناصرها بشكل عملي إلا بتكامل الجسم الإنساني العام، فالإنسان لوحده لا يشكل إلا وجودا يمثل وجها واحدا والوجه الآخر هو الإنسان الآخر الذي يمثل البعد الآخر المكمل للوجود الإنساني.
وإذا كنا قد بحثنا سابقا دور الحرية في التقدم ودور الاستبداد في التخلف فأن قضية الآخر تمثل النتاج العملي لهذين الدورين، فالاستبداد رفض الاعتراف بالآخر وتوكيد على سلطة الذات المطلقة، والحرية هي اعتراف بوجود الآخر لأنه لا معنى للحرية مع عدم قبوله وانكاره.
إن منطق التحضّر الإنساني الذي يتعامل مع الحرية كمنجز عظيم يقدم من الوسائل والأدوات ما يكفل إدارة الاختلاف بعيداً عن منطق الهمجية وإعلان حالات العداء المتخيلة.
إذن فكما أن هناك إدارة محددة ومعروفة عالمياً لإدارة الموارد والأموال العامة والوقت والبشر، فهناك أيضاً إدارة لجميع أشكال الاختلاف وبأدوات يحددها القانون ويضمن تفعيلها، لكننا للأسف لا نستخدمها بل ولا نقربها! لماذا؟ لأنها لا تلبي شهوة التوحش والأنانية ونزعة التفوق والرغبة في الانتصار على الآخر، والاستقواء عليه بالنفوذ والمال والعائلة والوظيفة، من هنا يأخذ التعامل مع الاختلاف شكل القمع والإقصاء والتأليب والعزل والسخرية والنبذ والتنمّر، حتى يفكر ألف مرة قبل أن يجاهر باختلافه!
هكذا يعالج المتخلفون خلافاتهم واختلافاتهم في بعض البلدان، حيث لا يمل الناس من التباهي بأنهم متحضرون ومتقدمون ومتعلمون، ومع ذلك فإنه لا التحضر ولا التاريخ قد شكلا لهم الحصانة ولا الوقاية والرادع لمنع نزعة التخريب والأنانية التي تجعل البعض ينتصرون لذواتهم وانتماءاتهم حتى وإن كان الثمن حرق بلدان، وتسميم حياة ومستقبل شعوب بأكملها.
الحياة الإنسانية قائمة على تحقيق التكامل الاجتماعي المتنامي عبر التواصل البشري والانفتاح الفكري والتلاقح العقلي والعلمي والتبادل التجاري والتعايش السياسي، فمع الانغلاق الإنساني على ذاته وقوقعته يتخلف عن أهم قواعد التاريخ التقدمي وهو التواصل والانفتاح.
يفسر المرجع الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه الله في كتابه الثمين (لكي لا تتنازعوا)، أسباب الاختلافات التي تؤدي الى خلافات ومن ثم الى قطيعة وصراعات ومرده إلى عوامل نفسية ثلاث (الجهل، الغرور، الحسد).
وأن عدم التنازع يكون بالضديات التالية التي تقترب وتبتعد فيما بينها، لكنها تدور في دائرة رجحان واحدة هي التنازع.
فمثلاً وضع الفرقة مقابل الوحدة، الاختلاف مقابل التراضي، الفردية مقابل الجماعية، الفوضى مقابل التنظيم، الخسارة مقابل الربح المتبادل، النزاع مقابل التصالح، الاستعمار مقابل التحرر والتجديد مقابل التخلف وهكذا..
ما نشاهده على وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات وهي أهم منصات التواصل البشري ونشر الأفكار من حرب طاحنة وساحات جدال على مختلف القضايا والآراء وتغليب مبدأ إذا كنت لست معي فأنت ضدي هي ظاهرة خطيرة جداً، وعززت هذه المنصات من الخلافات والفرقة بين الناس بدل أن تكون وسيلة للتقارب.
وفي كل الحالات فان التعامل مع الآخر لا يعتمد على مستوى البعد والقرب بل ينبع أساسا من السلوك النفسي والاجتماعي للفرد، فالانغلاق الذاتي للفرد والتربية الثقافية إذا افرزت سلوكا سلبيا فان التعامل سيكون سلبيا مع كافة المستويات باعتبار ان السلوك يتشكل من خلال التراكمات النفسية والثقافية والفكرية، واذا كان إيجابيا فينعكس ذلك على القريب والبعيد بلا استثناء. لذلك نرى المجتمعات أو الأفراد المتصادمين ينعكس تعاملهم السلبي مع الآخر في صراعهم حتى مع اقرب الناس اليهم في المبدأ والعمل. فإنكار ورفض الاعتراف هو بحد ذاته سلوك صدامي عام يصدر من خلال القنوات النفسية والثقافية والعقائدية للفرد، فهكذا فرد يبقى عاجزا عن التفاهم مع أي كائن لأنه يبقى تحت سيطرة روحه التصادمية، وفي الطرف الآخر فان الفرد المتسامح والايجابي نراه قادرا على التواصل مع الآخرين والانفتاح عليهم على كافة المستويات.
هناك مجتمعات متميزة فكرت بدقة بهذا الأمر، وتفهمت أن الاختلاف يمكن أن يحسن من درجة التعايش شريطة أن يؤمن الإنسان بأن النظر الى الحياة وتفرعاتها لا يمكن أن ينحصر في رؤية فكرية ضيقة وحيدة ترفض أفكار الآخرين، وقد بدأت تلك المجتمعات بتدريب الإنسان طفلا حيث شرعت في نشر ثقافة التعايش وتقبل الآخر بين الأطفال أولا، صعودا الى الفئات العمرية الأعلى، ولكنها تسعى أولا لنشر هذه الثقافة بين الأطفال لكي ينمو الكائن البشري حاملا في تكوينه الفكري والسلوكي ثقافة التعايش والاندماج في المجتمع، بغض النظر عن الاختلافات الفكرية والعرقية والدينية وما شابه، ومؤمنا بالاختلاف مع عدم الرضوخ الإكراهي للفكر الآخر، لهذا لا تتعرض مثل هذه المجتمعات الى أية أزمة او حالة من حالات التطرف، والتعصب والتكفير، كما يحدث في بعض المجتمعات والدول الإسلامية، حيث يلجأ كثيرون الى تكفير الآخر، لمجرد الاختلاف معه في الرأي، او الفكر او الثقافة او العرق، أو المعتقد، في حين أن المجتمعات المستقرة بلغت من درجة التعايش مبلغا بات يجنبها الفتن والاضطرابات والأحقاد، فليكن التعدد في الفكر والاختلاف في وجهات النظر متمما لطريقة العيش ومهذبا لمسارات الحياة.
بهذه الطريقة تمكنت المجتمعات الراقية أن ترتقي أكثر بعد أن تخلصت من حالات الاحتقان المجتمعي الذي يحدث كنتيجة لاختلاف المكونات من حيث طبيعة الانتماء، ولكن درجة تحضّر تلك المجتمعات وتمدنها، جعلها أكثر قدرة على الاندماج السريع، وفض الخلافات عن طريق القيمة الأرقى من بين قيم التقدم ألا وهي قيمة التعايش التي تمحو حالات الصراع، وتحول حالات التعصب والتطرف الى حالات تناغم وتفاهم وانسجام، مما يخلق حالة من الاستقرار الدائم والقوي وهذا بدوره يشجع على الإبداع وتنمية المواهب والقدرات الكامنة في عمق الإنسان، على العكس فيما لو كانت الأجواء محتقنة ومتشنجة بين مكونات المجتمع، اذ يؤدي هذا الى تحييد المواهب وتبعثر الطاقات واندثارها، بسبب حالات الصراع والأزمات المتلاحقة التي يعاني منها المجتمع الذي لا يؤمن بالتعايش، فيكون عند ذاك لقمة سائغة للتناحر والفتن والاضطراب، مما يؤدي الى فقدان فرص كبيرة على طريق التطور والاستقرار الذي تقطف ثماره المجتمعات الواعية والدول المستقرة.
من جانب آخر في نظرة الى البلدان التي يحكمها الاستبداد لا تجد خلافاً ظاهراً ولا تضارب في المواقف والكل بحسب الظاهر يمثّل رأي الحاكم وطاقات الشعب ملخّصة في قدراته وخططه ولكن العدّ التنازلي للبلد باستمرار إلى الوراء.. بدءً من الطفولة والتربية والتعليم إلى السياسة والأمن والصناعة والتجارة والرفاه والاستقرار.
إن البعض يفتخر بأن الديكتاتورية وحدة للشعب وانعدام للخلاف بينما الحرية والتعددية فوضى واضطراب ولكنه غفل عن أن التعددية إذا كانت إيجابية هي عامل خير وتقدّم وتفوّق للجميع..
بل ووحدة حقيقية في الوقت المناسب، والوحدة المكبوتة بالقمع والسجون وإلغاء الرأي الآخر هي وحدة مزيّفة يكمن في باطنها أعمق الخلافات والصراعات تظهر بشكل جلي وواضح عند الأزمة، وفي تاريخ الاستبداد والحكومات المستبدة ستجد ذلك جلياً وواضحاً في الحروب الأهلية والتفكك.
إذن الاختلاف صورة من صور الحياة الإيجابية إذا سار في الاتجاه الصحيح وإذا اقترن بالحوار الهادئ والنقد البنّاء وفهم الخلاف والتعايش معه على أنه حالة لا بدّ منها والقدرة والمهارة تظهران في تخفيف حدّته وتوجيهه بالاتجاهات الصحيحة التي تخدم الجميع أما الهروب منه أو التخوّف منه فهذا الأمر الضار الذي ينبغي علينا الالتفات إليه وتجنّبه مهما أوتينا من حنكة وخبرة وحكمة.
وللإستزادة من الأفكار والآراء نفتح باب النقاش عبر طرح السؤالين الآتيين:
السؤال الأول: كيف نحول الاختلافات المجتمعية الى مخرجات إيجابية؟
السؤال الثاني: كيف يمكن استيعاب الاختلاف ولماذا يرفض البعض قبول الآخر؟
المداخلات:
اربع مراحل لنجاح الاختلاف الايجابي
الشيخ مرتضى معاش:
الاختلاف يمكن قراءته من ناحية إيجابية أو سلبية حسب الحاضنة التي يكون فيها، فاذا كانت البيئة استبدادية يتحول الاختلاف الى احتراب فيما بين المختلفين أما اذا كانت البيئة منفتحة وديمقراطية يصبح الحوار بين المختلفين فرصه جيدة ومثمرة.
دائما ما نلاحظ في المجتمعات التي لا يكون فيها الاختلاف إيجابي نمو الاستبداد والصراعات والهيمنة والتصادم، كمثال على ذلك النزاعات العشائرية او الصراعات السياسية والانقلابات العسكرية في بعض المجتمعات كلها عوامل تساعد على نمو ثقافة الاستبداد والعزلة ويكون الحوار الإيجابي فيها شبه معدوم.
الانسان في جوهره مختلف عن الآخر وهي قضية فطرية حتمية طبيعية، في الدين الإسلامي الحنيف الانسان يقوم على شيئين (الكرامة والرحمة)، وهذا ما يجب ان يكون مبدأ قبول الآخر المختلف.
الاختلاف من الناحية الإيجابية يكون على أربعة مراحل:
المرحلة الأولى، هو فتح بوابات التواصل مع الاخر المختلف عبر تماس فكري ولغوي وانساني.
المرحلة الثانية، هو الحوار، ويأتي بعد فتح باب التواصل حتى يكون قبول للحوار ومعرفة مسبقة والابتعاد عن الجدال لانه يعتبر الجانب السلبي للاختلاف ولا يقود لنتيجة مفيدة لأن القصد منه الغلبة والسيطرة والهيمنة وحتى من الناحية الفقهية على سبيل المثال يعتبر الجدال والمراء من المحرمات والمحظورات على المحرم في الحج، وهذا دلالة على تأثيره السلبي على العلاقات بين الناس.
المرحلة الثالثة، هو التفاهم، والوصول الى نتيجة من الحوار بين المختلفين.
المرحلة الرابعة، هو التعاون وهو شيء صعب جداً في إدارة الاختلاف في عالم اليوم.
مثال مجتمعي من حياتنا اليومية هو العلاقات الزوجية، فكلما كانت العلاقة بين الزوجين قائمة على التواصل والتفاهم والتعاون والحوار الإيجابي كلما كانت العلاقة ناجحة وينعكس تأثيرها على الاسرة وكلما كان أساس العلاقة قائم على الهيمنة وإخضاع الاخر وانعدام التفاهم والتعاون نجد ان النتيجة تنتهي بالطلاق والمشاكل الكبيرة على الأبناء، والبناء الأخلاقي للشخص هو من يحدد سير علاقاته مع الاخرين.
الاختلاف مشكلة فلسفية
الباحث حيدر الجراح:
مرت الورقة البحثية مرور الكرام على مسألة الحرية وعلاقتها بالاختلاف ومسألة الاختلاف وعلاقتها بالذات الإنسانية، وعلاقة الاختلاف بالهوية..
في مجتمعنا هناك مثل شهير "خالف تعرف"، يأتي في ذم الاختلاف ومدح التشابه، طبيعة الانسان والمجتمعات البشرية تميل الى نزعة التشابه وكل مختلف هو مريض أو منحرف أو غير سوي أو شاذ وفي التعبيرات الحديثة وصلت الى كافر او ملحد وتكون هذه الحالة طبيعية في مجتمعات القطيع، ويتبدى الاختلاف من خلال الكلام واللغة.
الاختلاف هو مشكلة فلسفية مثل الحرية وغيرها وليس مشكلة اجتماعية، لنأخذ مثالا هاما عن الاختلاف الا وهم الأنبياء عليهم السلام، كل نبي وصل الى الحد الأقصى للاختلاف مع مجتمعه، وكل نبي وصل الى الحد الأقصى من التنكيل من قبل مجتمعه وتم وصفهم بالسحر والجنون والتمرد، ولكننا في كلامنا نمدح سلوك الأنبياء المختلف ونمارس الذم الشديد لأي فرد اذا ما كان مختلفا عن مجتمعه، وهذه مفارقة عجيبة تستحق التأمل.
في ثقافتنا العربية، لا نقبل بالاختلاف وجميعنا عاصر الحكومات الدكتاتورية وكنا نلاحظ ان تلك المجتمعات كلها متشابهة حتى في ازيائها احياناً والكلام يكون متشابها بلا معنى، ومن يكون مختلفا يلجأ الى الصمت، كل اختلاف هو نهر جاري وكل متشابه هو مستنقع وهذا ما لمسناه من تلك الحقبة.
الموروثات تقف عائقا
الدكتور قحطان حسين طاهر:
التباين في ثقافات الشعوب جعل الاختلاف الفكري والثقافي بينها إيجابيا ومنتجاً ومثمرا بينما في شعوب أخرى عزز بينها الصراعات وعدم الاستقرار والنزاعات المحلية وبالتالي غابت كل مشاريع التنمية والبناء والاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، الموروث الثقافي والفكري للمجتمعات قد يكون هو العائق اذا ما سيطر على الأجيال ومع تطور الزمان نجد ان هذه الموروثات تقف عائقا نحو التقدم، على سبيل المثال الشعوب العربية والإسلامية في معظمها لا زالت تعاني من العصبية والجاهلية وعدم قبول الآخر وعدم السماح للأقلية ان تعيش بحرية أو تمارس دورها وإن كانت متميزة بأفكارها ونتاجها ويتم تهميشها، وهذه الموروثات تجعل من الاختلاف حالة سلبية.
التنشئة الاجتماعية تضاف كذلك الى الموروث الثقافي، مثلا الطفل يسمع من والدته أو والده او اشقاءه رفض المختلفين معهم دينيا او مذهبيا او قوميا او حتى ضمن العائلة والاقرباء ويتم تغذية الكراهية وما شابه وينشأ في هذه البيئة فمن الطبيعي ان تكون النتائج لاحقاً سلبية بقبول الاخر.
عدم القبول بالآخر هو من الامراض المتوارثة نتيجة التغذية السلبية من جميع المستويات الاسرية والتعليمية والدينية والثقافية والسياسية.
كذلك المؤسسات الاجتماعية والثقافية والدينية والتعليمية تغذي هي الأخرى نبذ المختلف أو ابراز اختلافه كسلبية وليس إيجابية، وأيضا لدينا نقص في التشريعات القانونية لمعالجة هذه الحالات وتحتاج نظرة من المشرع العراقي لمعالجة هذا الخلل.
الطبقة السياسية عادة ما تستثمر هذا الخلاف وتنميه لتحقق كسبا شعبيا وهذا ما اعترف به بعضهم بينما شاهدنا تأثيرات هذا الصراع بنتائجه الكارثية على المجتمع وكل ذلك حدث دون رادع قانوني حتى يحد من مثل هذه السلوكيات التي تزرع الفرقة بين أبناء البلد الواحد.
الاقتداء بسيرة رسول الله (ص)
الباحث عدنان الصالحي:
يجب أن نبتعد قليلا عن نظرتنا المثالية للشعوب في الغرب وجميعنا شاهد في حال غياب مؤقت للنظام او حدوث حدث طارئ نجد ان مصطلحات قبول الاخر وقبول الاختلاف تختفي قليلا وما يميزهم عنا القوانين والأنظمة الصارمة التي تكفل الاختلاف وتعطي الحريات للآخر والاستقرار السياسي المتوفر ونحتاج شوطا كبيرا لنؤسس لأنفسنا نظاما يناسب مجتمعنا وتنوعه الثري.
ما تركه لنا النبي محمد (ص) وآله الاطهار من سيرة وسلوك وتراث ثري في هذا المجال يكفي أن نستفيد منه ونحوله الى اعلى مراتب قبول الآخر والمختلف، فرسول الله كان يضرب بالحجارة من مخالفيه وكان يرفع ايديه الى السماء يقول "اللهم اغفر لهم انهم لا يعلمون"، وهذا السلوك جعل منه أسوة وقدوة للعالمين وكل ذلك من أجل مصلحة المجتمع لا مصلحته الشخصية، فهو مثال لنا جميعا وعسى أن تعمل بهذه السيرة الشعوب الإسلامية.
اسوأ ما في الحرية أفضل مما هو أفضل في الاستبداد
الباحث حامد الجبوري:
الحرية والحوار هي أساس في فهم الاختلاف ولو فقدت ستحدث القطيعة وإلغاء الآخر، بدون الحرية وتبدأ من حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير وعدم فسح المجال للآخر أن يطرح أفكاره لا يمكن ان نشعر بوجود المختلف اصلاً، والحوار هو لغة التواصل بين الجميع لتحقيق القبول، اسوأ ما في الحرية هو افضل من إيجابيات الاستبداد.
ليس بالضرورة الاقتناع بوجهة نظر الاخر لكن من اللازم القبول بمبدأ الحرية واللجوء للحوار بدل الصراعات والقطيعة.
ادارة التنوع والاختلاف
الدكتور اسعد كاظم شبيب:
ان الاختلاف سمة اساسية من سمات الكون فقد خلق الله الناس والاشياء مختلفة اختلافا في شتى المناحي من الالوان والاجناس والاعراق والاديان، والامكانيات والسمات الجسمانية وما الى ذلك ومن هذا نستشف ان الاختلاف سمة ايجابية في هذا العالم والذي يبدو من اهم خصائص العالم المعاصر هو الاختلاف والتعدد والتنوع، والسؤال هنا كيف نجد ادارة قادرة على ادارة التنوع والاختلاف؟ وهذا يتطلب توافر جهود ومقومات عديدة من بينها ما يوكل على الانظمة السياسية والاجتماعية بالاعتماد على العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص بغض النظر عن الاختلاف الديني والمذهبي والاجناس، من ذلك ايضا فالضرورة تحتم علينا في هذا العصر قبول المختلف مهما كان شريطة ان تتوافر محددات لقبول هذا الاختلاف والتنوع من ضمنها الالتزام بقيم المواطنة واحترام القانون الذي يوجب التساوي امامه بغض النظر عن الجنس والدين والعرق. فسيادة القانون شرط اساسي في قبول الاختلاف والتعدد اما العناصر والمقومات الاخرى فهي مسالة خلقت مع الطبيعة واوجدتها سنن الحياة وشريعة الله في الاختلاف.
توظيف التباينات المجتمعية
الدكتور محمد مسلم الحسيني:
في كل مجتمع من المجتمعات في العالم لابد من وجود تباينات اجتماعية قد تكون قائمة على أسس عرقية أو دينية أو لغوية أو إقتصادية مادية أو غيرها مجتمعة أو فرادى. هذه التباينات المجتمعية تعتمد في تأثيرها وأثرها على إستقرار المجتمع حسب مواقع وطبيعة ودرجة هذه التباينات. حصول هذه التباينات الإجتماعية هي صفة حركية ديناميكية عامة قد تعود باثرها إيجابا أو سلبا على صيرورة المجتمع وديمومته. توظيف التباينات المجتمعية إلى مردودات إيجابية أو سلبية يعتمد على أمور عديدة واهمها؛
اولا: مركزية الإصلاح في المجتمع، وهذا يعني بأن مداواة الخلل الإجتماعي يجب أن يتم مركزيا من رأس الهرم واعني السلطة الادارية ومؤسساتها مرورا بالسلطة الدينية وأصحاب الشأن والنفوذ الاجتماعي والثقافي في المجتمع. هذه السلطات تستطيع تعميق اللحمة والوئام في المجتمع أن شاءت السير بطريق الإخلاص والوفاء وقد تعمق الشقاق والخلاف والهوة أن غازلها الشيطان بموبقاته ومشت بطرق الضلالة.
ثانياً: طبيعة المجتمع، كلما زادت التباينات الإجتماعية في مجتمع في درجتها وشدتها وأسبابها كلما صعب وتعذر خلق نسيج إجتماعي متجانس. فالمجتمعات التي تتباين فيها الأعراق واللغات والطوائف والأديان والانتماءات والولاءات قد تكون أكثر عرضة من غيرها إلى مواقع الخلاف والتباين والتشرذم والانقسام من غيرها.
ثالثا: الوعي، المجتمع الذي يسود فيه الوعي والمعرفة والثقافة والإيمان الصحيح الصادق يكون مجتمعا متحصنا ضد المطبات والتناحرات القاتلة رغم وجود الخلافات المجتمعية، بينما المجتمعات الفقيرة لهذه الأمور تكون قريبة إلى حافة الهاوية بوجود التناقضات الاجتماعية العميقة.
رابعا: ثقافة الديمقراطية، بوجود المد الديمقراطي في بلداننا والقادم إلينا طوعا أو كرها فلا بد لنا أن نعرف بأن للديمقراطية معاني ومفاهيم وشروط. مفاهيم الديمقراطية يجب أن تترسخ بعقول الناس ووجدانهم وهذه مهمة خطيرة وكبيرة وضرورية وتعتبر مرحلة أولية تسبق ممارسة الديمقراطية. هذه المعرفة والثقافة الديمقراطية تؤهل أبناء المجتمع لتقبل فكر ورأي وعقيدة الآخر واحترام المزاج المخالف والمعاكس. دون هذه الجهوزية فإن المعنى العام للديمقراطية سيسقط وستنجرف الديمقراطية وتجرفنا معها الى مهب الريح!.
الديمقراطية سلاح ذو حدين فأما أن يأخذ المجتمع لشاطئ الأمان والسلامة بصرامة قوته وأما إن يشهره لتقطيع أوصال المجتمع. دون التوافق والايفاء بهذه الأصول المركزية المذكورة ستبقى العلة قائمة ونبقى متوقعين لمضاعفاتها.
اضف تعليق