أينما نذهب ونحلّ، نسمع أحاديث التبرّم من أشخاص مخطئين في تعاملهم او سلوكهم، ليس بسبب قلّة وعيهم أو مستوى ثقافتهم واستيعابهم للأحكام والموازين الدينية او حتى الاجتماعية، إنما كونهم بين "مصلّي" أو "قارئ للقرآن" أو يحمل سمات التديّن في ظاهره او ملبسه، كما لو أن اصحاب هذه المظاهر ينبغي عليهم أن يكونوا الصورة المثالية للصدق والأمانة والتقوى، بل ربما عليهم تمثّل نوعاً من "العصمة"!.
هذه الرؤية والقراءة لحالة التديّن تنبع – في كثير من الاحيان- من الايمان العميق لدى المجتمع بدور الدين في تنظيم حياة الانسان وتقويم سلوكه الفردي والاجتماعي، بل هو شعور نابع من الفطرة السليمة في كل انسان، كون الإسلام –بالأساس- متطابق مع الفطرة الانسانية التي تأبى الرذيلة والقبح والفساد.
هذا الشعور الداخلي يقفز بقوة الى الواقع الخارجي بوجود عوامل تبعث على الأمل بتطبيق تلك الصورة كاملة على أرض الواقع، عندما يكون في قمة الحكم أشخاص محسوبين على جهات اسلامية او مؤسسات دينية، كما حصل في ايران، أول مرة عام 1979، ومن ثم في العراق عام 2003، بينما الاحكام والشرائع والقيم التي جاءت بها السماء، تمثل القواعد الثابتة التي "لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها"، فيما الانسان المخلوق من التراب جُبل على الخطأ والغفلة والجهل، {...إنه كان ظلوماً جهولا}، ما خلا المصطفين من خلق الله –تعالى- ممن لهم العصمة من أنبياء وأئمة كرام، أما الحالة العامة فهي تخضع لعملية التكامل في الدين والاخلاق ضمن الصراع المستمر بين الحق والباطل وبين نزعات الهوى والرغبات النفسية، وبين نداءات العقل والضمير.
هذا الصراع المرير ممتد منذ اليوم الذي هبط فيه أبانا آدم، عليه السلام، الى الأرض، وحتى اليوم وهو مستمر الى ما يشاء الله، لذا يشير العلماء الى ضرورة قراءة تجارب الشعوب والأمم وكيف عاشت ولماذا أبيدت رغم ما بذلته من جهود وقدمت من انجازات؟ كون النزعات الانسانية واحدة نحو المال والسلطة والخلود وصفات نفسية أخرى، مثل الكِبر والغرور والحسد، فهي كما كانت في بني اسرائيل – مثلاً- قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة، فانها موجودة في عالم اليوم، باختلاف الظروف الموضوعية وظواهر الحياة فقط، ولذا كان في عهد الإمام علي، عليه السلام، "سامريّ هذه الأمة"، وهو يشير الى الحسن البصري، و يوجد ايضاً، "علماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل"، كما جاء على لسان النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله.
ولو طالعنا التاريخ السياسي في بلادنا الاسلامية لوجدنا أن الأمة واجهت نكبات وويلات مريرة من حكام كانوا يدّعون أنهم "خلفاء رسول الله" وأنهم يحكمون "دولة إسلامية" ويطبقون الشريعة الاسلامية، فيما كان الظلم والفساد يضرب بعنف في كيان الامة والمجتمع، وكانت أنهر الدماء تسيل من السجون والزنزانات المظلمة فضلاً عن الحروب الكارثية والعبثية التي حصدت الآلاف من المسلمين طيلة قرون من الزمن، مع كل ذلك، كانت القيم والمبادئ والعقيدة لها مكانتها في القلوب لا ترقى اليها تلك المفاسد والانحرافات، ولو كان كذلك، لما كانت قد بقيت للدين باقية اليوم، ولما كانت مآذن المساجد تصدح بصوت الأذان والناس تقبل على التكافل والتعاون والتواصي، ولما كانوا يقدسون القيم والمبادئ.
وهذا لم يكن إلا بفضل حملات التوعية والتثقيف التي نهضت بها المؤسسة الدينية متمثلة بالحوزة العلمية طيلة القرون الماضية، عبر أجيال من الخطباء والعلماء والأدباء والكتاب الذين فتحوا كل أبواب العلم والمعرفة لتمكين الانسان نحو التسامي والتكامل وبناء الشخصية الايمانية الفاعلة في المجتمع والأمة.
لذا عندما نجد في الوقت الحاضر، صوت تلاوة القرآن الكريم يصدح من المحلات التجارية او السيارات، او تعلو بعض الجدران لوحات لأحاديث شريفة وآيات قرآنية أو أسماء للمعصومين، عليهم السلام، وغيرها من الظواهر الدينية على صعيد المجتمع، فانه يمثل نقطة ايجابية عظيمة في ظل صراع فكري وحضاري محتدم تدور رحاه في بلادنا الاسلامية، وهي تمثل نقطة بداية مشجعة على طريق الوعي ثم الاستيعاب الكامل للمفاهيم والقيم، على أمل تحقيق التغيير في مجالات الحياة كافة، ويكون النجاح في هذا المضمار منوطاً بمستوى الوعي والإيمان لدى افراد المجتمع، لا أن يتوهم البعض بأن الإيمان والفضيلة وغيرها، يجب ان تسير على قدمين بدلاً من الانسان!
إن دعاوى البعض بالفصل بين السلوك الانساني وما يحمله الانسان من عقيدة وإيمان، لن يلغي الازدواجية والوصولية والنفعية وغيرها من إفرازات الانفصام بين الانسان وبين فطرته وضميره، كما يتصورون، فهذه الافرازات تبقى على حالها لانها مسألة ذاتية، علاوة على ذلك، سيفقد هذا الانسان الفنارات التي تضيء له الطريق نحو الرشاد وتنعدم امامه الرؤية لقراءة الواقع والتطلع نحو المستقبل وفق قواعد وأسس صحيحة، فالكذب والسرقة والاحتيال وانتهاك الحرمات وغيرها من المفاسد، تتحول الى سلوك طبيعي يمارسه الجميع، والخاسر الأكبر، لن يكون الانسان وحده، وإنما المجتمع الذي سيبتلى بما يشبه الوباء المتفشي في كل مكان بحيث يكون كل انسان معرض للموت في أي لحظة.
اضف تعليق