ها هي ذكرى جديدة وسنة تاسعة تمر على رحيل السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (قده)، وها هي الأحزان تتكالب على قلوبنا ونحن نستذكر وقائع وتفاصيل هذه الفاجعة، ولكن كما يحدث مع العظماء الخالدين، فإن مثل هذه الذكرى تزيد محبيه تعلقا به كما حدث مع الفقيه الشيرازي حتى بعد بلوغه العالم الآخر، فقد بقيت القلوب والبصائر متعلقة به ومتشبثة بأفكاره ورؤيته التي غالبا ما تفتح للإنسان رؤية جديدة لمعالجة إشكاليات الواقع بجميع أنواعها.
لقد رحل هذا المفكر التربوي البليغ عن عالمنا، بعد أن ترك إرثا فكريا خلاقا ومشرفا، لأمة الإسلام وللإنسانية جمعاء، تهتدي في ضوئه نحو السمو والرفعة، وتبقى هذه الذكرى على الرغم من الفجيعة التي ألمّت بنا كأتباع ومحبين، ولا تزال آلامها ومرارتها حاضرة في نفوسنا، ولكن هذا الألم يزيدنا إصرارا على الاستفادة دائما من توجيهات ومحاضرات وخطب ومؤلفات الفقيه الشيرازي وهو يتناول كل ما يتعلق من أمور أخلاقية ودينية واجتماعية لها مساس مباشر مع حياة الناس.
إننا إذ نعيش هذه الذكرى التاسعة، فلابد أن نستلهم من فكر وشخصية الفقيه الشيرازي مبادئ وأفكارا ومواقف لها إمكانية تطوير حياتنا، بل هي لا تخصنا وحدنا، بل موجهة للجميع، كونها مستمدة من الفكر المحمدي وفكر أهل البيت عليهم السلام، لهذا فأن البشرية تبقى بحاجة دائمة الى الفكر الخلاق، ولا تنحصر هذه الحاجة بمرحلة زمنية معينة أو بفئة بشرية محددة، فطالما تواجد الإنسان كعنصر أساسي فاعل في هذه الحياة، بقيت الحاجة الى الفكر الإنساني قائمة، ولعلنا نوافق على أن السمات الأهم التي يتميز بها الفكر السليم، هي إنسانيته أولا، بمعنى انطلاقه من الجذور الفطرية للإنسان، ومن ثم موسوعيته التي تشمل ميادين الحياة كافة، لتقدم له مشروعا فكريا متميزا، كما عهدنا الفقيه الشيرازي في جميع مشاريعه التربوية والفكرية، خصوصا تلك التي كان يركز عليها في خطبه ومجالسه وأفكاره المبدئية.
إرث فكري أخلاقي مبهر
من هنا فإننا لمسنا نزوعاً إنسانيا يميز جوهر الفكر الذي أطلقه الفقيه الشيرازي، ممثلا في محاضراته ومؤلّفاته، وهكذا نقول بقلب مطمئن ورأي ثابت الجنان، استنادا الى الدلائل الماثلة، بأن الفكر الذي تمخضّت عنه تجربة الفقيه المقدس، آية الله، السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)، هو فكر إنساني موسوعي في آن واحد، لأنه لم يترك ميدانا من ميادين الحياة والفكر إلا وسبر غوره، وتوغل في بطونه لكي يجعله سهل المنال أمام الإنسان، تصحيحا للمسيرة الفردية او الجماعية، بهدي الأفكار الخلاقة التي انطوت عليها أبحاث ومؤلفات ومحاضرات الفقه الشيرازي، ومما يزيد في هذا الفكر عمقا وثراء، أنه لم يترك حقلا ولا مجالا ولا شاردة أو واردة، إلا وتناولها وتصدى لها بالفحص والتمحيص.
ومع التطلعات والطموحات الواسعة للفقيه المقدس، إلا أن المساحة الزمنية القصيرة التي عاشها في رحاب الحياة، لم تمهله الوقت الكافي، لإتمام مشاريعه الفكرية الكبيرة التي كان يسعى الى تحقيقها، ومع ذلك لدينا الآن إرث فكري موسوعي كبير، تركه لنا الفقيه المقدس على شكل بحوث ومحاضرات وكتب، لم تترك مجالا يخص حياة الإنسان إلا وتصدّى له بأسلوبه الذي يدخل في إطار السهل الممتنع، حيث جذب إليه مستويات متباينة من الوعي والإدراك، ولكن كما تؤكد الشواهد أن العقول والمستويات المتباينة كانت تجد ضالتها الفكرية والأخلاقية والتربوية في جوهر فكر الفقيه الشيرازي.
وكما كان الفقيه المقدس في حياته وجهة لكل المحبين بمتخلف أعمارهم وتوجهاتهم، سيبقى كذلك حتى بعد رحيله، حيث بات غاية الناس على مختلف مشاربهم، وليس أدل على ذلك من توافد المريدين عليه من أصقاع البلاد الإسلامية كافة وسواها، داخل العراق وخارجه، أملا بلقاء سماحته والتحدث - إليه في حياته-، والاستنارة بهدي فكره الذي يجمع بين الرصانة والبلاغة والسهولة شكلا، أما مضمونا فإنك ستجد سمات الحق والتسامح والرأفة والإيثار، والتقرب الى الله تعالى ورسوله وآل بيته عليهم الصلاة والسلام، ديدنا لا يحيد سماحته عنه، وطريقا لا يسير في سواه، مبينا بالتجارب الماثلة والوقائع الساندة، أهمية ما ينطوي عليه فكره الخلاق، من فوائد جمّة للإنسان أينما كان، وهذا هو سر تعلق الناس بالفقيه الشيرازي حيث يلتف حوله محبوه متابعين وملتزمين بآرائه الخلاقة في مجالات الحياة كافة.
جهود فكرية بجميع مجالات الحياة
ومع الجوهر الفكري الديني الإنساني المبدئي الذي قدمه الفقيه الشيرازي، في مشروعه الفكري التربوي للمسلمين والإنسانية جمعاء، كانت السمات التي يتميز بها الفقيه المقدس تمثل جوهرا عميقا له وتعكس طبيعة التكامل بين فكره وسماته الشخصية المعتدلة كالحنو والرقة والهدوء، متلائما ومنسجما مع صوت مرهف ومؤمن وثابت الجنان، كأنه من أعذب ما خلق الله من أصوات قريبة الى نفس الإنسان وسمعه، فيتلاقى الفكر مع الشخصية الفريدة بسماتها وصفاتها، ليجد المريد القادم إليه، غايته الإيمانية الإنسانية القصوى، في صورة وجوهر متناغم ومنسجم، يتجسد بجمالية عالية في فكر الفقيه المقدس، وطرائق التوصيل الفكري التي يعتمدها، سواء في محاضراته الصوتية المسموعة والمرئية، أو في مؤلفاته وكتبه التي ضمت بين دفتيها أفكاره الغنية والمتنوعة، ليبقى حضوره مستمرا وفاعلا ومؤثرا حتى بعد أن مرت تسع سنوات على رحيله الى العالم الآخر مقيما في جنان الخلد والسلام.
إننا ونحن نعيش ذكرى استشهاد الفقيه الشيرازي، لابد أن نسترجع جهوده الكبيرة التي تصدت لمختلف مجالات حياة الإنسان عبر مرحله العمرية المتتابعة ومن كلا الجنسين، فقد بحث الفقيه الشيرازي في المجال التربوي والعلمي والديني والأخلاقي والعقائدي، وقدم للمرأة ما يليق بها من بحوث فكرية ثمينة ومتميزة، تساعدها على بناء حياتها الذاتية والأسرية، وتمنحها فرصة النجاح في الحياة الأولى ليقودها ذلك الى الفوز بالقبول الرباني في الحياة الأخرى، بما يتلاءم مع دورها التربوي الأساس الذي يسهم بصورة فعالة لبناء الشخصية المعتدلة الناجحة.
وفي مراجعتنا للإرث الخطابي والكتابي للفقيه الشيرازي، سوف نلاحظ اهتمامه الكبير والمتشعب والدقيق بما يساعد الآباء والأمهات، ويمهد لهما سبيلا متقنا لتربية أطفالهم بالطريقة التي تجعلهم صالحين ناجحين متنورين بعيدا عن انحرافات العصر الراهن، فيما قدم للشباب طرقا كثيرة وميسّرة للنجاح، وسعى سماحته نحو شمولية الفكر وسلاسته في آن واحد، فصار بذلك غنيا وعميقا وسهلا متاحا لجميع المستويات الذهنية، وبهذا تميَّز فكر الفقيه الشيرازي بموسوعية إنسانية، يحتاجها الإنسان على مدار الوقت، وهو يخوض غمار الحياة البشرية الشائكة، حيث تعقيدات الحياة تتضاعف بصورة متزايدة في ظل عالم بات بلا ضوابط، ما يجعل المسلمين وغيرهم بحاجة الى ما يطرحه الفقيه الشيرازي من أفكار موسوعية تصب في الاعتدال والاحترام المتبادل والتعاون البشري مستمدا ذلك من الفكر الثر لأئمة أهل البيت عليهم السلام.
اضف تعليق