نقترب هذه الأيام من حلول الذكرى التاسعة لاستشهاد الفقيه المقدس السيد محمد رضا الشيرازي (قُدس سره)، ففي مثل هذه الأيام فُجِعَ العالم الإسلامي والشيعة في أصقاع المعمورة، بخبر صاعق، ينبئ عن رحيل الفقيه الشيرازي، آية الله، محمد رضا الحسيني الشيرازي (تغمّده الباري برحمته الواسعة)، ومع موجات الألم التي تفتك بقلوبنا كمحبين لهذا الخطيب الفذ، سلسل الدوحة الشيرازية الكريمة، فإننا نستذكر هذه الشخصية الفذة، بكثير من الفخر والإعجاب، لما تتحلى به قامته الخطابية الشاهقة من صفات وقدرات تؤهله للتفرد والتميز على نحو مستدام.
لقد برع الفقيه الشيرازي كخطيب منبر حسيني، واحتل مكانة خاصة في قلوب المحبين المتابعين له، بسبب تلك الخصال التي تميز بها سماحته، فكما هو معروف أن الخطابة فن قديم، نشأ قبل الإسلام، ولها من التأثير ما هو أقوى من تأثير الكلمة المقروءة، وقد كان النَّاس في الجاهلية يتجمَّعون في سوق عكاظ، ويتبارى الشعَراء والوعاظ في إلقاء ما عندهم من شعرٍ ونثر، ولَمَّا جاء الإسلام زادها جمالا، واشترط لها شروطا، وأوجب حضورها على كل مسلم مكلَّف، وألزم المسلمين بالإنصات لها، واشترط لها الوقت، إلى غير ذلك من أمور موجودة في كتب الفقه.
ولعل من كان يتابع محاضرات الفقيه المقدس بطريقة منتظمة، كان يعرف تمام المعرفة طريقة سماحته في عرض موضوعه بالطريقة المحببة التي أدخلته في قلوب آلاف المتابعين المحبين لأسلوبه وعرضه المنبري المختلف عن سواه من الخطاب، فقد كان الفقيه المقدس يتسم بسمات ويتصف بصفات خاصة به، تطبع شخصيته حصرا، وتجعله متفردا بين الخطاء، تبدأ هذه الصفات، من حضوره الشخصي المؤثر بقوة على جمهوره ولا تنتهي بكسبه لقلوبهم ومسامعهم وعقولهم، لهذا نلاحظ تزايد أعداد الحاضرين لمجالسه، والمتابعين لمحاضراته التلفازية والإذاعية يوما بعد أخرى وأسبوعا بعد آخر.
تحدث كثير من متابعي سماحة الفقيه الشيرازي عن صفاته، فأكد بعضهم على حفظه للسور والآيات القرآنية بطلاقة، ما يجعله قادرا على الخوض في جميع الأمور التي تهم حياة المسلمين، فسماحة الفقيه الشيرازي يتحدث في الجانب التربوي ويفصّل فيه أيما تفصيل، ويستند موضوعه بالآيات القرآنية المناسبة والأحاديث والروايات الشريفة المسنودة وأقوال أئمة أهل البيت عليهم السلام، كما أن سماحته متداخل بطريقة عميقة مع شرائح واسعة من المجتمع، فيلتقط الحكايات والتجارب الاجتماعية المؤثرة تلك التي تعطي دروسا عميقة للشباب أو النساء أو الرجال في المجال التربوي، ومما يشهد لسماحة الفقيه المقدس، أنه بلغ قمة التأثير في جمهوره بتلك الأمثلة التربوية النادرة التي كان يطرحها سماحته من فوق المنبر.
ومما كان لافتا للنظر في شخصية الفقيه الشيرازي، أنه كان شديد التواضع أمام مستمعيه، حتى كأنه ليس خطيبا مفكرا ذا باع طويل في الفقه الإسلامي وفي خفايا المشكلات والتعقيدات التي يعاني منها المسلمون، فيُبدو للجميع بعيدا كل البعد عن الأنا، فكسب بذلك قلوب الناس، وكان سماحته يوجز في القول، ولا يطيل، ويكثر من التركيز، على ما يخدم العقل ويطور الوعي، لدرجة أن كل من يحضر مجلسه مرة واحدة لن يتركه الى الأبد.
ومما لوحظ على الفقيه الشيرازي أثناء إلقائه محاضرته أو خطبته، أنه لا ينسى شيئا أو جانبا من موضوعه كما يحدث لبعض الخطباء، كما أنه شديد الملاحظة، ولا يحب الطرح المجاني، كما أنه لا يسهب في ما لا يصب بلبّ الموضوع الذي يتحدث سماحته فيه، فكان سماحته يبذل جهودا كبيرة جدا كي يجذب انتباه الحاضرين في مجلسه، ليس بالصوت الرنان، ولا بالإشارات الفائضة، وإنما بذلك الهدوء العجيب الذي يتميز به سماحته والذي يعكس الراحة والتركيز والهدوء على جميع الحاضرين، وهذه سمة الخطباء الأفذاذ المقتدرين.
بالطبع هذه الميزة تتحقق من خلال تسلسل موضوع أو فكرة الخطيب، وقد كان الفقيه الشيرازي يهتم كثيرا بتسلسل الموضوع المطروح، والأفكار التي كان يسعى سماحته الى تقريبها من عقول وأذهان الحاضرين والمستمعين، ولعل السبب في توافر هذه الميزة، يكمن في إحاطة الفقيه المقدس بجميع المواضيع التي يسعى لطرحها، حيث يتهيأ سماحته للمحاضرة قبل وقت كافي ويهضمه تماما، حتى قيل فيه أنه قلما يهدر وقتا في لا شيء، وقد أفنى وقته في متابعة المستجدات الإلكترونية والإنترنيت، فبرع في مجال الإطلاع على ما يحدث في عموم العالم وعلى مدار الساعة لكي يجاري ما يستجد فيه ويطلع عليه.
ولعل من كان يحضر مجالس الفقيه الشيرازي، أو يراها ويسمعها عبر التلفاز، فإنه سوف يكتشف بعض التفاصيل التي قد ينظر إليها بعضهم على أنها غير ذات أهمية، منها مثلا درجة علو وانخفاض الصوت أثناء إلقاء الخطبة، أو طريقة الكلام، وجزالة اللفظ، واستخدام المفردات الأقرب الى المتلقي، فسماحته لم يكن يهتم بالتنميق او غموض اللغة بقدر اهتمامه بتوصيل الأفكار الصعبة أو المركبة بأوضح المعاني وأبسط الكلمات وأقلها غموضا، فتأتي المحاضرة سهلة سلسلة عميقة مركز وذات فائدة عظيمة للمتلقي.
كل هذه الصفات أعطت للفقيه الشيرازي حضورا خاصا ومتميزا وعميقا في نفوس المتابعين له، ويشهد على ذلك مجيء أعداد متزايدة من الرجال والنساء من جميع المحافظات العراقية حتى البعيدة منها، لكي يحضروا بشكل شخصي وآني مباشر لمحاضرة الفقيه المقدس، وهناك قصص كثيرة عن هذه المحبة وهذه العلاقة المتينة التي ربطت الناس بسماحة الفقيه الشيرازي.
وهكذا بقيت ذكراه العطرة حاضرة دائما وأبدا في قلوب الجميع، حتى هذه اللحظة، وسوف تبقى حتما، لأن الناس المحبين والمتابعين للفقيه الشيرازي، لا زالوا يتواصلون مع أفكاره ومحاضراته عبر الكثير من القنوات الفضائية (الشيعية)، التي دأبت على تقديم هذه المحاضرات بشكل دوري مستمر في أوقات منتظمة، وهي مشكورة على هذا العمل، كونها تبقي على استمرارية هذه العلاقة المجدية والأصيلة بين الأعداد الغفيرة من محبي سماحة الفقيه الشيرازي، فإن كان سماحته قدر رحل عنا بجسده، فإن أفكاره المتوقدة النابضة بالقيم العظيمة لا تزال معنا، ولا يزال وسيبقى تأثيرا قائما ومؤثرا في نفوسنا وقلوبنا الى الأبد.
اضف تعليق