يتفق المعنيون على أن هناك ترابطا وثيقا بين الحرية والابداع، فلا يمكن للمبدع أن يتقدم خطوة في طريق الابداع، ما لم تتوافر له أجواء الحرية المتكاملة، فإن حصل المبدعون على ما يشجع تواصلهم وتوفير الظروف الملائمة لهم، وخلق أجواء التحرر لهم، عند ذاك سوف تكون النتائج باهرة، وعلى العكس من ذلك، إذا غابت الحرية، وحوصر أصحاب الابداع بالتابوات المعروفة، وبغيرها من وسائل محاربة المبدعين، فإن الموت الأكيد للمواهب النافرة سيكون نتيجة حتمية، إذ لا يمكن أن يزدهر الابداع والمبدعون إلا تحت ظلال الحرية.
المبدعون هم صناع الحياة، ولا يقتصر وجودهم في الجانب النظري او الفكري فقط، فالعامل الماهر الذي يبتكر طريقة ما لتحسين الانتاج يصبح مبدعا، وكذا بالنسبة للمعلم، والطبيب، والانسان عموما، إذا تميّز في حياته العملية والفكرية، وكان ذا فكر مختلف من حيث الحيوية والتجديد، او ذا قدرة على صنع الاشياء بطريقة فريدة، فإنه سوف يدخل فضاء الابداع والمبدعين من أوسع الأبواب.
ولعلنا نتفق على أن نتائج كهذه لابد أن تقود الانسان الى الربحية، في المجالات التي ينشط فيها، بمعنى اوضح، اذا ساعد أصحاب المشاريع الفكرية والعملية على توفير الحرية للعاملين في مشاريعهم، فإن النتيجة سوف تصب في صالحهم، ويكاد هذا الرأي أن يرتقي ليلامس قوة القانون، فتكون المعادلة كالتالي، كلما كان الانسان أكثر حرية كلما كان اكثر ابداع وتميزا، لهذا يمكن لأصحاب المسؤوليات والمهام المتنوعة، استثمار هذه المعادلة لصالحهم وفق اخلاقيات الربح والخسارة.
فالأب على سبيل المثال، وهو المسؤول الاول عن مؤسسة العائلة وافرادها، يمكنه ان يكون مسؤولا متميزا او فاشلا، من خلال ارتفاع او هبوط الخط البياني للحرية التي يتعامل وفقا لها مع افراد عائلته، بمعنى اذا كان صارما جامد التفكير وحدّيا ولا يترك حيزا كافيا من الحرية لأبنائه، فإنه مهما كان بارعا في التخطيط وما شابه، ومهما كانت قدراته المادية والفكرية جيدة، لا يمكن أن ينجح بتكوين اسرة متميزة ومبدعة، بسبب غياب الحرية او ضعفها في مؤسسة العائلة، ولا نعني هنا الحرية المطلقة، بل الحرية المسؤولة، لذلك تكون النتائج في آخر المطاف خسائر متلاحقة للعائلة، حتى لو كان افرادها اذكياء، لأن الذكاء والابداع لا يساويان شيئا تحت القسر والجبرية ووسائل القهر.
ينطبق هذه على المؤسسات الاخرى، الصغيرة منها والكبيرة، كالدول و الشركات الكبرى وسواها، ويندرج تحت هذا التوصيف انواع المشاريع والاعمال المتنوعة، بمعنى اذا كان رؤسائها لا يعتمدون مبدأ الحرية ولا يمنحون المشتغلين معهم ما يكفي من حرية التفكير والعمل والمهارات، فإن الخسارة المادية ستكون حتمية، والسبب معروف سلفا، قلة في الانتاج ورداءة في النوع، لدرجة أن الامر يصل بالعاملين الى حد قضاء اوقات الدوام والعمل بأتفه الاشياء، فضلا عن قتل روح الابداع في ذواتهم، وتحويلهم الى آلات جامدة، غير قادرة على التجديد كونها مبرمجة مسبقا، وتعمل وفقا لأزرار تشغيل وإطفاء لا أكثر.
وليس هناك من هو مستثنى من هذا الامر، فالمعلم مثلا، لا يمكن أن ينجح بتطوير طلابه ما لم يمنحهم حرية التفكير الكافية والمناقشة والاسهام بحيوية في ادارة الدرس، واذا شعر الطالب بأنه ازاء حرية في الفكر والانتاج، لا شك انه سوف يصبح اكثر اندفاعا وابداعا، مع مواصلة التوجيه والارشاد للطلبة، فلا يصح ان يمنح التدريسي طلابه الحرية التامة بغياب الارشاد والتوجيه، لذلك تؤكد نسب النجاح التي يحققها الاساتذة المؤيدين للحرية المسؤولة للطالب، تحقيق ربحية عالية لهذا النوع من التعامل، ونعني به التعامل الحر، وتوفير ما يلزم من اجواء تشجع على الابتكار، لذلك نلمس ربحية واضحة في هذا المجال تنتج عن تعامل التدريسيين وفق اخلاقيات الربح والخسارة مع قيمة الحرية.
رؤساء الدول او الحكومات، يخضعون لهذه المعادلة أيضا، ويؤكد ذلك النتائج التي تدل على ما يلي (حرية اكثر تساوي شعبا افضل ودولة اكثر استقرارا)، على العكس من الشعوب المقهورة، تلك التي يمارس عليها حكامها شتى انواع القمع والإذلال، شعب من هذا النوع لا يمكن ان يبدع، بل سوف يكون طاردا لمبدعيه، كما أثبتت العقود الماضية في العراق وسواه من الدول القمعية، فقد هربت كفاءات كبيرة بسبب ظلم الحكومات وإقصائها للكفاءات، وبسبب اعمال القسر والجبر وما شابه ضد المبدعين، كونها تخشى العقل المبدع، ويكون معيار الفرص لتلك الحكومات، الولاء بغض النظر عن المؤهلات، لذلك امتلأت الدوائر والمؤسسات الحكومية في العراق، بآلاف الطارئين من انصاف الموهوبين، وأخذوا أمكنة أصحاب الكفاءات عنوة، فباتت هذه المشكلة تهدد - وفقا لأخلاقيات الربح والخسارة- حاضر ومستقبل العراق، بسبب غياب المعايير الصحيحة في موازاة الكبت والقسرية وغياب المعيار الأهم في هذا المجال، ألا وهو معيار الحرية، الذي يدفع الشعب والافراد على حد سواء، نحو الازدهار وتحقيق الربحية على المستويات كافة.
اضف تعليق