من الأمور البديهية أن معالجة حالة التضاد بين طرف وآخر تحتاج الى تنازلات من طرفي الاختلاف او التضاد، ولكن ربما يكون أحد هذين الطرفين عير مستعد لإبداء أي نوع من التنازل، وقد لا يكون مثل هذا الموقف بسبب قوة ذلك الطرف، وإنما بسبب تعصبه وتهوره وتمسكه بالتصادم كحل لا بديل له لمعالجة الاختلافات مع الآخر، وهكذا يعجز هذا النوع من الناس عن استيعاب الآخر بسبب عجزه الأخلاقي.
فتحدث واقعة الاختلاف على الرغم من إمكانية تفاديها، فيما لو تحلّى الانسان بالقدرة على استيعاب الآخر وعدم اللجوء الى التصادم معه، لذلك فإن العجز عن استيعاب الآخر بالمفهوم الواضح يعني غياب الحوار، وعندما تفشل لغة الحوار في التقريب بين المتناقضين في الافكار والثقافات والآراء والسلوك، فلا يبقى أمامهم سوى الاختلاف كطريق لحل التناقضات القائمة بينهم!، وهو طريق بائس وفاشل، يدمر الحياة، ولا يساعد على بناء مجتمع متقدم متوازن يتطلع نحو التطور وبناء الذات والمجتمع بطريقة متحضرة، يحدث هذا بطبيعة الحال عندما يفشل أحد الطرفين في التعامل مع الآخر عبر الحوار.
من العوامل التي تقود الى صنع الاختلاف بين طرفين، عدم استعداد أحدهما للحوار، وافتقاره الى الجانب الأخلاقي الذي يجعله أكثر تفضيلا لاسلوب الاحتواء والتفاهم بدلا من التصادم وإذلال الطرف الآخر، وهو ما يؤدي بالنتيجة الى حالة من التضاد قد تصل الى القطيعة التامة بين الطرفين، من هنا لابد للإنسان والجماعة الانتباه الى أهمية البحث عن النقاط المشتركة بين الطرفين لتقريب وجهات النظر والسعي للعمل في إطار الاحتواء بدلا من التضارب الذي قد يقود الطرفين الى خسائر فادحة، مادية ومعنوية.
لذلك عندما يكون الانسان ذا وعي بسيط وثقافة ذات مستوى متدني، فإنه سوف يكون متزمتا متعصبا في تعامله مع الآخر، ولا شك أن هناك ظاهرة نستطيع ان ملاحظتها في مجتمعاتنا، وهي سرعة الاختلاف والتضارب بين الأفراد او الجماعات، او الأحزاب على المستوى السياسي، بمعنى أن ضعف قدرة الانسان على استيعاب الاخر، والافتقار الى أخلاقيات التعاون والتسامح والتقارب يؤدي الى انتشار العنف في النسيج المجتمعي كله!، والمشكلة أن سرعة التناقض والاختلاف بين الافراد والجماعات هي السبب في ذلك حي تضعف قدرة المتناقضين على الحوار والتفاهم من خلال تغليب الموقف الأخلاقي على سواه في حل المشكلات مهما كان نوعها او حجمها أو مصدرها.
أدلة على فقدان الحكمة
إن السعي لاستيعاب المختلف، يحتاج الى قدرات عقلية وفكرية، ويتطلب استعدادا نفسيا ووعيا وحكمة راسخة في ذات الإنسان فكرا وسلوكا، وتظهر هذه السمات الايجابية في سلوك الانسان او الجماعية في ميادين العمل والدراسة والحركة في أي مكان كان، حتى في الأماكن العامة والشوارع والحركة بين الناس، فطالما أنت تتحرك بين الناس وتحتك بهم لابد أن تحدث حالات تصادم مختلفة، وهنا سوف تظهر قدرة الانسان على استيعاب الآخر حتى في حالة الاحتكاك المفاجئ أو المباشر، بغض النظر عن المعرفة المسبقة بالطرف الآخر.
في هذا الإطار ربما نكون قد لاحظنا مثالا يتكرر في شوارع مرور السيارات على سبيل المثال، إذ عندما تصطدم سيارتان، فإننا سرعان ما نشاهد حالة العراك، والسب واللعن بين السائقين ومن معهما من الركاب، حتى لو كانوا لا يمتون بصلة قرابة للسائق، وإنما بسبب حالة الجهل والتعصب، وغالبا ما يصل الأمر الى العراك، والضرب بالأيدي، او بالآلات الحادة، وقد يتطور الأمر الى استخدام الأسلحة النارية او سواها، ولا يترك الطرفان أدنى فرصة لحوار هادئ يمكن أن يتم من خلاله، حل المشكلة الطارئة بطرق عديدة، منها قانونية مرورية، أو بطرق التراضي بين الطرفين، ولا شك أن هذه المشكلة ليست لها جذور مسبقة بين الطرفين أي أنها طارئة نتيجة حادث طارئ.
ولا شك أننا نفتقد الى أخلاقيات استيعاب الآخر، وحل المشكلات بطريقة الحوار، وهذا يعني أننا نقف إزاء ظاهرة ترفض إيجاد مشتركات للتفاهم المتبادل ضمن أخلاقيات (الدفع بالتي هي أحسن)، لسد الطريق أمام أية مشكلة، من خلال قراءة الرأي الآخر، ومحاولة فهمه والتعاطي معه، ليس بمعنى الإيمان به والعمل في ضوء رأيه وموقفه الذي قد يكون خاطئا، ولكن على الأقل لابد أن نمنح الموقف الآخر فرصة مناسبة للفهم، الذي غالبا ما يقود الى حالة من التراضي، بعيدا عن الخسائر التي قد تصل إلى إزهاق الأرواح، في حين من الممكن معالجة أصعب الحالات فيما لو كان الطرفان يتحليان بالقدرة على استيعاب الآخر.
إن ضعف حالة استيعاب الآخر تحصل بسبب تفاقم حالة أخرى لدى الانسان الفرد او الجماعة، وهي حالة التطرف والتعصب للرأي او الفكر أو الموقف، في حين أن المطلوب هو التحلي بأخلاقيات الاستيعاب والابتعاد عن التمسك بأسباب الاختلاف، وإبداء الاستعداد للتقارب، لأن المجتمعات المتطورة لا يمكن ان تمنح فرصة للتطرف كي يقودها الى الصراع، بل لابد من اللجوء الى وسائل وسبل بديلة كالحوار، والتعامل معه في ضوء هذا الفهم، وإبعاد حالة التعصب بصورة كليّة، واعتماد الأخلاق القادرة على استيعاب الآخر، كطريق يمهد الى حالة من التفاهم في اشد الظروف تناقضا وهو أمر يمكن أن يكون متاحا للجميع في ظل أخلاقيات تسعى الى التفاهم كبديل مهم عن الاختلاف.
طوّر قدرتك على استيعاب الآخر
هل يمكن أن نقوم من خلال سعي فردي أو جماعي، إلى تطوير قدرتنا على استيعاب الطرف الذي يحاول أن يتصادم معنا لأي سبب كان؟، الجواب نعم إن هذا النوع من القدرة على الاستيعاب يمكن أن نحصل عليه بالتدريب الثقافي والاستعداد الأخلاقي لحمل هذا الفكر والسلوك معا، فعندما يكون الانسان ذا أخلاق عالية متماسكة، فإن ذلك سوف ينعكس على سلوك وتفكيره ويضاعف من حكمته في التعامل مع الآخرين.
وهذا هو المطلوب في حقيقة الأمر، لأننا عندما نتحلى بأخلاق رفيعة، ووعي وثقافة وحكمة، واستعداد نفسي للتعامل بصفاء نية مع الآخر حتى لو كان مختلفا معنا، فإن سبل منع التصادم وفرص التفاهم سوف تكون مضاعفة للطرفين، بمعنى حتى بعض الأشخاص او الجماعات المصرّة على الخلاف والمعاندة، قد تلين في مواقفها عندما تلاحظ مبادرة التهدئة والحكمة والأخلاق الرفيعة حيث يؤدي ذلك الى تخفيف حدة الخلاف.
ولطالما انطفأت نيران حرائق كبيرة لخلافات معقدة عندما اعتمد احد طرفي الصراع أسلوب استيعاب الآخر، وأظهر تعاملا أخلاقيا حكيما مع الآخر، وصفحات التأريخ والتجارب القريبة والبعيدة تؤكد لنا أن الحكمة في التعامل، وعدم الانجرار الى التصادم المباشر، وإظهار حسن النية، والاستعداد الصادق لاستيعاب الآخر وعدم تأجيج حالة الخلاف، كل هذه الخطوات تؤدي بالنتيجة الى إطفاء نار الصراع.
ولكن يبقى الأمر بحاجة الى أن نتحلى بأخلاق عالية، تجعلنا قادرين على استيعاب الآخر وتمسكه بموقفه ومطالبه التي قد تكون غير مشروعة، لذلك يُقال أن القوة في ردع المعاندين تكون مطلوبة في بع الأحيان، ولكن في الأغلب الأعم تكون هناك فرص كثيرة متاحة أمام درء تداعيات الصراع والتصادم من خلال أخلاقيات استيعاب الآخر والوصول الى حلول ترضي طرفي الصراع، وهو أمر ممكن بطبيعة الحال، في ظل توافر مبدأ استيعاب الآخر أخلاقيا.
اضف تعليق