لا زلت حتى الآن أتذكّر تلك النصيحة الذهبية التي حصلت عليها من أحد الأصدقاء، وهي تتعلق بأهمية اختيار الألفاظ في محادثة الآخرين، وهي نصيحة تضم في داخلها أكثر من نصيحة، لدرجة تبدو معها وكأنها مجموعة من النصائح الذهبية، وجميعها تتعلق بطريقة الكلام مع الآخر أو مخاطبته، أما النصيحة الذهبية المتداخلة فهي بدورها تتعلق بجانب آخر وهو نبرة الصوت التي يتم من خلالها نطق الكلمات.
في هذه الحالة أصبحت لدينا نصيحة أولى أهم وأكبر، وهي تخص اختيار الكلمات ومعانيها بدقة ونحن نتحدث مع أفراد المحيط الأقرب إلينا منهم الأبناء والاخوان والاصدقاء من كلا الجنسين، والمحيط الأبعد كالناس الغرباء الذين نلتقي بهم مصادفة في الشارع او المقهى او سيارة الاجرة او اثناء السفر او في الحدائق العامة، هؤلاء ايضا ينبغي أن نختار الملفوظات التي تتناسب معهم بحيث نسعى لكسبهم عبر الكلام الجميل.
ولا شك أن نبرة الكلام، او طريقة نطقه لها أهمية كبيرة في هذا الجانب، بحيث يكون النطق بنبرة هادئة متوازنة وصوت واطئ غير منفعل يتناسق مع المعنى الجميل للكلام، فلا فائدة في معاني وكلمات جميلة تُقال بنبرة منفعلة، فالانفعال والنبرة الحادة تقتل الكلمات ومضامينها مهما كانت درجة جمالها، بمعنى ما فائدة أن تقول كلاما جميلا بنبرة عدائية، ويمكن أن نعكس ذلك فنقول ما فائدة أن تقول كلاما مسيئا بنبرة متوازنة.
إذاً نحن إزاء شقيّن في ما يتعلق بالكلام، الشق الأول هو اختيار المفردات المعبرة أفضل وأرقى تعبير عن الهدف الذي نسعى إليه، والثاني توصيل هذه المعاني الراقية والكلمات المتميزة الى الشخص او الجهة المعنية بنبرة صوت هادئة ومتميزة أيضا، قد يقول أحدهم ما فائدة النبرة الهادئة مع أناس متشنجين ومتعصبين، لكن ما أثبتته التجارب تقول عكس ذلك تماما، فالمحادثة بنبرة هادئة تكسب أشد القلوب قسوة وتشدّه إليك، وتجعلك أقرب إلى الآخرين.
وبالعودة إلى نصيحة الصديق، أقول لقد جربت أساليب الكلام بأنواعها في سياق التجريب، واستطعت أن أحقق أهدافي بأسرع الأوقات وأقصر الطرق، ولكن بعد أن طبقت نصيحة هذا الصديق التي تقول، علينا أن نختار كلماتنا بصورة جيدة أثناء الحديث مع الآخر، بحيث تكون كلمات جيدة وذات معاني راقية تناسب الهدف المطلوب، وينبغي أن لا ننسى طريقة لفظ هذه الكلمات، فهي مهمة الى أبعد الحدود لاسيما من حيث الجانب الأخلاقي، وتساعد على تحقيق المطلوب بنسبة عالية مدعومة بحسن المعاني للمفردات.
كيف نتحدث مع أبنائنا؟
يُشاع بين العراقيين أنهم من ذوي النبرات العالية في الكلام، وأن (دمهم حار) كما يُقال، فتراه يتعصب وقد يثور ويرتفع صوته عندما يتعرض الى أي استفزاز بسيط، لا شك أن هذه الملاحظة موجودة بالفعل لدى العراقيين، فعندما يتعرض لاختبار الاستفزاز، لا يتعامل معه بهدوء ولا تأني ولا حتى تفكير مسبق بالرد، لأن رد الفعل السريع يكون حاضرا وهو الأسرع من سواه، فيفقد الإنسان أعصابه ويفقد السيطرة على كلامه.
بينما الأسلوب الصحيح في حالات كهذه، هو استيعاب الآخر، ومعرفة أقواله ومعانيها، وتحليلها، ومن ثم التأني في طريقة الرد عليها، وعندما يكون الهدوء سيد الموقف، فإن النجاح سوف يكون حليف الإنسان حتما، لأن مثل هذه الأمور من المخاطبات والمحادثات تؤثر بشكل كبير على الانسان، فكلما يكون الكلام جميلا هادئا سلسا إنسانيا، سيكون تأثيره كبيرا في الآخر، ولا يستثنى من ذلك الأبناء.
فطريقة الكلام مع الأبناء ينبغي أن تقوم على قاعدة الكلام الجميل المتوازن بنبرة هادئة متوازنة، وهي النصيحة التي حصلتُ عليها من صديقي وطبقتها على نحو فعلي في محادثاتي مع أبنائي والآخرين أيضا، فالابن او حتى البنت لا يمكن أن تضمن قناعتها إذا لم يكن كلمك جميلا معها، ليس جمال الكلام وحده، بل كيف سيتم توصيله الى الأبناء، وكما ذكرنا سابقا لابد أن تكون معاني الكلمات جيدة وطريقة توصيلها جيدة أيضا.
في هذه الحالة سوف يضمن الأب قناعة الابن والبنت بما يقول وبما يهدف إليه، لذا فإن الجانب التربوي للأبناء وإن كان يتأثر بالجانب الفعلي التطبيقي اسرع من القولي النظري، إلا أننا نحتاج كثيرا الى أن نربي أولادنا عبر الكلمات، فهي الوسيط الناقل للأفكار والقيم والنصائح والملاحظات، صحيح إن أهمية تطبيق القيم مهم في سلوكنا وأفعالنا، وينبغي أن نجعل أولادنا يرون تطبيقنا للقيم الأخلاقية بصورة عملية، لكن تبقى هناك أولوية للكلام والنصائح النظرية.
من هنا لابد أن يتنبّه الآباء والأمهات الى أهمية أن يقوموا بهذا الدور بصورة دقيقة وفعالة، ونعني بذلك أن تكون كلماتهم ومعانيها منتقاة وليست عشوائية، طبعا هذا لا يعني أننا محكومون بكلام محدد مع الأبناء، وإنما الجانب التربوي يتطلب منا أن نقول ما هو جيد من الكلمات، وأن ندفع لهم بالأفكار الناجحة دائما، على أن يتم ذلك بنبرة كلام تجذب الأبناء للاستماع والاصغاء التام الى أبويهما.
الهامش الأخلاقي وحسن الكلام
حسن الكلام يرتبط بصورة وثيقة مع الأخلاق، فالأول منبعه الثاني، لذلك غالبا ما نلاحظ أن الانسان الذي يتفوّه الكلام الجميل بنبرة هادئة متوازنة هو إنسان يتحلى بأخلاق عالية، وينبغي أن لا ينحصر الكلام الجميل مع المحيط الخارجي، فمن المهم جدا أن يكون الانسان ذا اسلوب أخلاقي تربوي جيد وهادئ في الكلام داخل بيته، ومع أولاده من كلا الجنسين.
علما أن الأبناء يفتحون عيونهم وأسماعهم على كلام أبيهم، ويراقبون سلوكه، هدوءه من عصبيته وتسرعه، ملابسه نظافته تسرعه قوته وضعفه، كل هذا يكون تحت رقابة الأبناء من دون أن يشعر الأب بذلك، لسبب واضح أن الأبوين هم النموذج الأخلاقي الأول والأكثر تأثيرا في الأبناء الذكور والإناث.
فتنعكس شخصية الأب بصورة كبيرة على الابن والبنت، فإذا كان كلامه خاضعا للتدقيق ويختاره بصورة جيدة ثم يلفظه بنبرة راقية وهادئة، هذه الطريقة سوف تنتقل الى الأبناء، وسوف تكون ثمارها حاضرة في حياتهم، على العكس من ذلك عندما يكون الأب متسرعا فاقدا للسيطرة على أقواله وسلوكه، هذا أيضا سينعكس على الأبناء من الجنسين، وشتان بين الفشل والنجاح.
لذلك ينبغي على الأبوين التنبّه بصورة دقيقة الى هذا الجانب الحساس، لأنهما يعكسان الشخصية التربوية الجيدة او خلافها على شخصيات الأبناء، فيكون التأثير الأخلاقي للأبوين كبيرا وواضحا، ويمكن أن يكون في صالح الأبناء او بالضد منهم، فهناك سرعة عجيبة في قضية التأثر بالأب أو الأم في كلا الحالتين الجيد وعكسه.
لذا من باب أولى أن نربي أبناءنا بطريقة سليمة متوازنة، وأن نسهم في بناء الشخصية الجيدة لهم، وأن نساعدهم في مجال التربية وطريقة الكلام وقوله واختيار المعاني المناسبة لكلماتنا التي نقوم بتوجيهها الى المحيطين الداخلي (الأسرة) والخارجي (العمل، الدراسة، الشارع، قاعة الإنترنت) وما شابه.
لسبب بسيط أن الكلام هو الوسيط الناقل للمشاعر والأفكار والقيم وما شابه، فإذا كان هذا الوسيط الناقل جيدا، سوف ينعكس ذلك إيجابيا على شخصية الحياة، وسرعة تأثيره على الآخرين، وخاصة في الجانب التربوي للأبناء، وإذا عرفنا سرعة تأثر الأبناء (ذكور وإناث) بالآباء، فإننا كآباء سوف نكون أكثر حرصا في كلامنا وفي نبرة الصوت الناقلة للكلام، والكلمات التي تمتلك تأثيرها الأخلاقي الساحر في الأبناء.
اضف تعليق