q

قبل البدء في جوهر هذا الموضوع، ما هو المقصود من الاستقلالية، هل نحن مع استقلال الفرد عن الجماعة، وإطلاق الحرية الشخصية له كي يمضي في السلوك الذي يروق له؟، وهل الطفل او المراهق او حتى الشاب، يمكن أن يستقل الى درجة اتخاذ القرار الشخصي في الحياة؟، الإجابة من العلماء المعنيين بـ (علم الاجتماع وعلم النفس)، لا يقبلوا منح هؤلاء الاستقلالية التامة، ولا يمنعونها عنهم أيضا، إنما هناك نوع من الموازنة بين الإطلاق والتحديد، وبقول واضح.. يمكن منح الشاب استقلالية بشرط أن تكون مدروسة.

ماذا نعني بالاستقلالية المدروسة وما هي الاستقلالية بشكل عام، إن الاستقلالية تعني تمكين الفرد من اتخاذ قرارات مستقلة تتعلق بحياته من دون أن تتسبب تلك القرارات بالإساءة له أو لغيره من الناس، وهذا يستدعي نوعا من الذكاء وقدرا من الخبرات التي تساعد الإنسان على صنع القرار المستقل وتنفيذه، فهل يا ترى يستطيع الفرد، في مراحل الطفولة والمراهقة والشباب، على اتخاذ وتنفيذ قرارات مستقلة لا تلحق به الأذى أو بغيره؟؟.

إننا لابد أن نذكر بدايةً، أن الاستقلالية المقصودة، هي الاستقلالية المدروسة، وهي تلك التي تقوم على تعليم الطفل في الحاضنة الأسرية على الاستقلال والثقة بالنفس، فعندما يقوم الأب والأم بدور فاعل في مساعدة الابن او البنت بمزاولة الاستقلالية بصورة صحيحة، فإن هذا من شأنه أن يصنع شخصية واثقة مستقلة، بإمكانها أن تتخذ قرارات معينة، ولكن كلما كان العمر صغيرا والخبرة قليلة، ستكون هناك حاجة الى الاستشارة.

تُرى ماذا لو ذهب الفرد في المراحل العمرية الأٌوَل بعيدا في مجال الاستقلال، وماذا لو ترفّع وتكبر على أبويه وعلى الآخرين من افرد العائلة او من خارجها؟ على اعتبار انه مستقل، وانه يمارس حق من حقه، وقيمة أخلاقية علّمه ودربه عليه أبواه (أبوه وأمه)؟، هل يمكن في هذه الحالة السيطرة على الشاب او المراهق؟ في حالة الجنوح صوب الخطأ، علماً توجد أخطاء قاتلة وعصيبة، تلك التي تدخل في إطار الانحراف بأنواعه؟.

إن المقصود بقيمة الاستقلالية هنا، هو مد يد العون للنشء الجديد (الأطفال، المراهقين، الشباب)، لكي يصبحوا أكثر ثقة بأنفسهم، وأكثر قدرة واتقانا لصناعة القرار، وتنفيذه من دون تردد بعد التأكد من أنه يصب في صالح الذات الفردية والجماعية معا، فليس هناك فائدة من شخص مهزوز الشخصية، وضعيف، وغير قادر على اتخاذ اي قرار مهما كان من الصعوبة او السهولة، فصناعة الإنسان المهزوز المتردد لن تصب في صالح الفرد ولا العائلة ولا المجتمع.

ولكن في الوقت نفسه، لا ينبغي على الأبوان والمدرسة، أن يسهموا في صناعة (دكتاتور صغير)، تنمو معه الاستقلالية المتعالية، ليضرب الجميع عرض الحائط، فالهدف من الاستقلالية المساعدة على ترسيخ عنصر الثقة في شخصية الإنسان من اجل فائدته والآخرين.

صناعة المجتمع الواثق

إن ترسيخ قيمة الاستقلالية في شخصيات النشء الجديد هو أمر بالغ الأهمية، لأننا بهذه الطريقة نقوم بصناعة مجتمع قادر على تحقيق الاستقلال في صناعة القرار الاجتماعي والحياتي عموما، أي أننا بهذه الطريقة نكرّس قيمة أخلاقية جديدة في المجتمع، تسهم في توجيه الشعب وتدفعه نحو الاستقلالية وعدم التبعية لأية جهة كانت، لاسيما فيما يخص القضايا المصيرية.

تعني الاستقلالية فيما لو تم تعزيزها وتكريسها لدى الفرد، مضاعفة عنصر الثقة بالنفس، وهذا يعني أن حاصل جمع الأفراد المستقلين تعني صناعة مجتمع واثق مستقل، قادر على مواجهة المصاعب والأزمات أياً كان حجمها او نوعها أو نتائجها الضاغطة، فالفرد عندما ينشأ في حاضنة أسرية تدربه على الثقة والاستقلالية المدروسة، فهذا يعني بالنتيجة صناعة مجتمع مستقل وواثق ولا يتردد في مواجهة المشكلات العصيبة التي قد يتعرض لها.

هل هناك مخاطر من أسلوب الاستقلالية الفردية، وهل يجازف المجتمع بأمر خطير عندما يذهب الى صناعة الشخصية المستقلة منذ الطفولة؟، في الحقيقة هذا الأمر لا يخلو من خطورة، وقد تكون كبيرة الأضرار، ولكن نحن ذكرنا في بداية هذه الكلمة، أن الاستقلالية التي نهدف إليها، هي المشروطة، أو بتعبير أفضل (استقلالية محسوبة)، نستفيد منها كأفراد وكمجتمع، ونتلافى مخاطرها في الوقت نفسه.

أما ما هي المخاطر المحتملة، فإن الإنسان بطبعه يحب الاستقلال، ويندفع نحو الحرية المطلقة، وعندما نزرع في الطفل والمراهق مثل هذه الأساليب التربوية، فإننا كمن يدفع بطفله نحو التمرد المسيء، ونحو الجنوح الى مرافئ الانحراف الكثيرة، وهذا ينعكس على المجتمع آجلا أم عاجلا، ولا ينحصر الأذى بشخص القائم بالفعل أو الفكر المستقل، اذا لم يكن فكرا متوازنا.

من هنا نحن نحتاج الى الاستقلالية، وندعو لحرية الأفراد والجماعات، ولكن ما ينبغي أن يتدرب عليه النشء الجديد (الأطفال المراهقون، الشباب)، هو الحرية المنتِجة، والاستقلالية التي تمثل قيمة أخلاقية مضافة الى القيم الداعمة للفرد والمجتمع، كذلك نريد من ترسيخ هذه القيمة أن نقطف نتائج جيدة تساعد في بناء مجتمع حيوي واثق مستقل في ثقافته وأفكاره وسلوكه.

انتقال الاستقلالية عبر الأجيال

هل هناك ثمار جيدة يمكن أن نقطفها، بعد أن نسعى لترسيخ قيمة الاستقلالية لدى النشء الجديد؟، أم هنالك مخاطر محتملة في هذا المجال؟، إن الثمار الجيدة والنتائج المرموقة التي سيقطفها الفرد والمجتمع من خلال تكريس الاستقلالية المحسوبة، كقيمة أخلاقية راقية، موجودة وحاضرة بالفعل، وقد ذكرنا بعضها فيما تقدم من الكلام، لأن تدريب الأطفال في الأسرة على الاستقلالية الصحيحة، سوف تعود بنتائج هائلة لجميع الأطراف.

من هذه النتائج، أن الإصرار على هذه الميزة المجتمعية، تعني تحول السلوك الاستقلالي المستقل الى قيمة أخلاقية، تدخل ضمن قيم المنظومة الأخلاقية للمجتمع، وسوف يُصبح هذا السلوك مشابها لقيم جيدة ومهمة أخرى، مثل الصدق في التعامل، وإتقان العمل، واحترام الوقت، والتعاون مع الآخر، والعفو، ومشاركة الآخرين في الأفكار والأعمال الجيدة، إضافة الى القيم الجيدة الأخرى.

ومع كل هذه القيم الرائعة التي اعتاد عليها المجتمع وتمسك بها، سوف نأتي بقيمة جيدة مفيدة وهي قيمة الاستقلالية المحسوبة، فتدخل من ضمن منظومة القيم الجيدة التي يتمسك بها المجتمع ويدير شؤونه المجتمعية والإنتاجية والتربوية والأخلاقية من خلالها، وهكذا تُصبح لدينا ثمرة أخلاقية جديدة وراقية وقيمة تسهم في صناعة مجتمع ينحو صوب الارتقاء من خلال الفكر والسلوك المستقل، الذي يتأتى من البناء التربوي السليم لزرع الثقة والاستقلالية المحسوبة في شخصية الفرد ثم المجتمع كمحصلة نهائية.

وبهذه الطريقة، يمكن أن يكون لنا طفل ومراهق وشاب، يتدرب على الثقة والاستقلال المتوازن، والذي يقوم بالتدريب الصحيح لهذا الأسلوب، العائلة أولا، ثم المدرسة، بمراحلها (رياض الأطفال، والابتدائية)، صعودا الى المراحل اللاحقة، ومع التدريب على الاستقلال، ينبغي أن لا يغيب عنصر المشاركة لأفكار الآخرين، وخاصة ذوي الخبرات، وعدم التزمت في الاستقلال لدرجة الانفصال والانعزال التام عن الآخرين.

في هذه الحالة، علينا أن نفهم بأن الاستقلالية قد ذهبت في الاتجاه الخاطئ، لأننا لا نريد استقلالية تصنع (دكتاتورا صغيرا) منذ الطفولة، لتكبر معه الدكتاتورية، فنكون أما شخص كبير متعنت ومتزمت برأيه وغير قابل للتعاون مع الآراء والأفكار الأخرى بحجة الاستقلالية والحرية الفردية!، لذا ينبغي أن يهتم المربون والتربويون بشرط (التوازن) عندما يدربون الاطفال والمراهقين والشباب على قيمة الاستقلالية.

اضف تعليق