مع التطور الصاروخي في تقنيات الاتصال المجاني عبر العالم، يمكن القول أن التسرّع في إصدار الاحكام، وهو المعضلة الاخلاقية المزمنة والقديمة، وجد الاجواء الاستثنائية للنمو والانتشار، بحيث بات من الصعب جداً إلزام شخص ما بالتأنّي والتبصّر قبل التضامن مع هذه القضية على "الفيس" او الضغط بـ "لايك" على تلك.
وربما يكون هذا من آفات عالم السرعة في تبادل المعلومات في وقت تختلط فيه المفاهيم وتضيع المعايير الصحيحة، فكل شخص بامكانه أن يضع علامة الصحّ او الخطأ على ما يراه في مواقع التواصل الاجتماعي، وأيّ تأخير في الرد يوسم صاحبه بالتخلف عن الركب.
واذا كانت لهذه المعضلة آثار محدودة فيما مضى من الزمن، كأن يكون على شخص او اكثر في المحيط العائلي او المهني، وتكون الاسقاطات السلبية على مساحة صغيرة، فان اليوم نشهد الاسقاطات على مساحات و ابعاد واسعة، لنأخذ العلاقة بين المواطن والحكومة، او بين المجتمع والدولة في نطاق أوسع، فان اتخاذ الاحكام إزاء هذا المسؤول او ذاك، او إزاء هذا الحراك الجماهيري او ذاك، من شأنه ان يكون حجرة صغيرة ضمن بناء رأي عام صانع للاحداث، او وسيلة لتغيير القناعات، وبما أن التسرّع، في أغلب حالاته لا يهدي الى سواء السبيل، فالنتيجة تكون مزيداً من تكريس التشاؤم وتعميق الاحباط والهزيمة النفسية، واليأس من التغيير الحقيقي.
علماء الاخلاق يذكرون مساوئ عديدة لهذا السلوك، أبرزها؛ ما نلاحظه في واقعنا الحاضر، وهو إصابة الفرد والمجتمع بحالة من التذبذب في الرأي والموقف، لأن الذي يصدر حكماً خاطئاً يكون مجبراً على الانسحاب مع حفظ ماء الوجه، وهذا ليس بالضرورة ان ينجح دائماً، فالذي يتضامن مع دعوات التحلل من الالتزامات والقيود تحت شعار "الحرية"، نجده ينسحب فوراً من ساحة "الفيس" او امثالها، عندما تظهر على صعيد المجتمع مظاهر شاذة كأن تكون خادشة للحياء – مثلاً- او مناقضة للذوق العام او للآداب وغير ذلك. وهكذا الامر ينسحب على الشأن السياسي واللهاث وراء هذا الاسلوب في الاحتجاج والتظاهر، ثم الانقلاب عليه والتبرؤ منه، او اتباع اسلوب معين لمخاطبة المسؤول المخطئ والفاسد، ثم التخلّي عنه دون توضيحات ومبررات مقبولة.
وهذا لم يكن ليستفحل في النفوس ويظهر على السلوك، لولا أن البعض يستشعر في نفسه الكفاءة العالية في التشخيص والدقة في الرؤية، فيظن ان الأحرى به استباق الاحداث والآخرين والوقوف في الصفوف الاولى لتحقيق مكسب معنوي او مادي؛ لا فرق.
ولعلنا نصطدم بمعضلة نفسية أخرى في الطريق، وهي ما يصفه علماء الاخلاق بـ "الجهل المركب"، بأن يعد الانسان الجاهل نفسه عالماً، ويجهل أنه جاهل! وهنا مكمن الخطورة، إذ ليس من السهل تغيير هذه القناعة، فضلاً عن التحذير من مساوئ ومخاطر إصدار الاحكام المسبقة.
وإذن؛ قدمٌ أولى على المشاعر الخاطئة ووهم العلم بكل شيء، والثانية أمام حقائق الامور والصورة كما هي، فيكون عندئذ مخيراً بين أن يتخذ قراره بالتسرّع في الاحكام المؤدية الى خسارة الاصدقاء او الاقارب او السمعة والمصداقية، وبين ان يلتزم الصبر وطول أناة ليتجنب كوارث ربما لا تخطر على باله.
في تاريخنا الاسلامي يروي لنا الصحابي؛ اسامة بن زيد انه "بعثنا رسول الله، صلى الله عليه وآله، في سرية، فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلاً فقال لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي، صلى الله عليه وآله، فقال: أقال: لا إله إلا الله وقتلته، قال قلت: يا رسول الله؛ إنما قالها خوفاً من السلاح، فقال صلى الله عليه وآله: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا... فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ". بمعنى أن أسامة الذي كان يعتمد عليه النبي الأكرم، كثيراً في تحركاته العسكرية، تمنى الموت على سماع هذا التأنيب من النبي الاكرم.
في ذلك الوقت كان التسرّع في الاحكام يودي بحياة انسان واحد، او بسمعة جماعة في منطقة محدودة، أما اليوم فان النتيجة ربما تكون أشدّ كارثية على الانسان نفسه وعلى المحيطين به، بحيث يصعب التعويض أو الانسحاب.
اضف تعليق