الصوت المنخفض من شأنه دعوة جميع افراد المجتمع الى مزيد من الاحترام المتبادل، وعدم السماح للتفاوت الطبقي الحاصل بسبب الإثراء والتطور الاقتصادي المتصاعد في الوقت الحاضر، بل وحتى التفاوت العلمي، بأن يكون مبرراً للتعالي بواسطة رفع الصوت على هذا او ذاك مهما كانت الاسباب...
"خفض الصوت من إمارات الإيمان"
أمير المؤمنين، عليه السلام- غُرر الحكم ودُرر الكَلِم
عشت ردحاً طويلاً من الزمن خارج بلدي مهجّراً بقرار جائر من نظام صدام، وبعد عودتي لاحظت تغير بعض العادات في سلوك الافراد ومنها؛ الحديث بصوت مرتفع في كل مكان، بدءاً من البيوت، والاماكن الخاصة والعامة، ثم الشارع والاسواق، وحتى بعض المراكز الحكومية مثل المدارس والمستشفيات، مما أثار انتباهي بشدّة لأني غادرت بلدي وكان محيطي الاجتماعي هادئاً وادعاً، كما وجدت الشيء نفسه في معظم البلاد التي مررت أو حللت بها، فالناس هناك يتحدثون فيما بينهم بصوت منخفض ومسموع دون الحاجة لرفع الصوت بشكل لافت، وتذكرت أيام الصبا عندما كان الصوت العالي مقتصرٌ في الشارع على الشرطي لمطاردة المُدان بجريمة او مخالفة، او الأب عندما يريد تأديب ابنه، أما العنصر الثالث، وهو المعذور في كل حال؛ الباعة المتجولين في الاسواق لعرض بضاعتهم، لاسيما من الاطعمة والأشربة، وعند الحاجة وبشكل محدود.
عرفت السبب –من جملة اسباب ربما- والعائد الى طريقة الحكم التي مارسها صدام مع الشعب العراقي والمشحونة بالقسوة والغلظة، ولعل ظروف الحرب العراقية- الايرانية، ثم اندلاع الحرب العراقية- الغربية –إن صح التعبير- كرّست هذه الحالة في النفوس، فتمت تنحية الآداب والأخلاق بنسبة كبيرة ليحلّ محلّها التوتر والاضطراب والقلق من كل شيء، فصارت حياة الناس أشبه بالمعسكر يكون فيه الجنود مستنفرين لأي صرخة آمر تدعوهم للحضور في ساحة العرضات، حتى وإن كانوا في عزّ النوم، مما جعل التحدث بصوت عالٍ وسيلة لصدّ العنف والضغط القادم من الطرف المقابل.
الحفاظ على جدار المودّة
من الطبيعي خوض كل شعب وأمة محناً وتجارب مريرة مع أنظمة حكم، او حروب، او حتى كوارث طبيعية او انتشار أمراض فتاكة تلقي بظلالها على المنظومة الاخلاقية فتحدث فيها خللاً بالمعايير، ومن الطبيعي ايضاً؛ العودة الى الجذور الطيبة للمجتمع العراقي حيث الحب والمودة ومنظومة من العادات والتقاليد الحسنة والآداب الرفيعة.
وفي المرحلة الراهنة نجد تغييراً ملحوظاً شهده المجتمع العراقي بعدم وجود ذلك الصوت القاهر والرهيب، فالجميع اصبحوا في مأمن من وكيل الأمن، او رجل المخابرات، او الانضباط العسكري، او أي عنصر من ذلك الزمان، يخدش اسماعهم بصوته الخشن، مما يتيح الفرصة لبناء العلاقات السليمة على أساس الود والحب، لاسيما وأننا أمام تجمعات متنوعة أوجدها التطور السياسي والاجتماعي على الصُعد كافة، فقد ظهرت تجمعات طلابية، وأخرى مهنية –نقابية، وحتى رياضية وفنية، الى جانب الهيئات والتجمعات الدينية ذات المدخلية الواسعة في تحكيم الأخلاق في التعاملات البينية.
وما يعزز من دور هذه التجمعات والتشكلات في المجتمع، وجود رموز ومحاور يتبناها الغالبية، مثل؛ الوطن والعقيدة والأخلاق والانسانية، فالجميع يتفاعلون مع فوز المنتخب الوطني في مباريات رياضية، او حتى بفوز عراقي او عراقية في مسابقات علمية او أدبية عالمية، ونفس التفاعل مع مناسبات دينية مثل الزيارات المليونية، وأيضاً؛ التفاعل الملحوظ مع دعوات النجدة لمعوزين أو لتلبية نداء مريض بحاجة الى مساعدة للشفاء، والامثلة على هذا كثيرة لا تُعد.
كل هذا يحتاج بعض التعاطف والتواضع يمكن ان تستظل تحتها مشاريع استراتيجية مثل؛ الزواج، او بناء علاقات صداقة، وقبلها جميعاً؛ إنشاء قاعدة تربوية ناجحة داخل الأسرة بين الأبوين والابناء، او بين الابناء فيما بينهم، تقوم عليها ركائز العلاقة المتينة والمستدامة ومنها؛ الاحترام والثقة المتبادلتين، ومن ثمّ لن نكون بحاجة الى صوت عالٍ لإيصال فكرة معينة، او حتى الاعتراض على شيء، مهما كانت الاسباب، فالجميع يشعرون أنهم كأفراد محترمون في رأيهم وعقيدتهم وقناعاتهم، وحتى أذواقهم.
المسؤولية الاجتماعية
حسناً فعل علماء الدين في تعميم آثار خفض الصوت على العلاقات الاجتماعية، وعدّها مسؤولية جماعية وحق عام، لاسيما عندما نعرف أن أبرز غاية للمتكلم بصوت عالٍ محاولته فرض شخصيته ورأيه على الآخرين بطريقة صادمة، وهو ما يكشف عن مشاكل نفسية يحلل العلماء المختصون منشأها واسبابها.
فاذا نقرأ في الآية القرآنية الكريمة على لسان لقمان و وصاياه لابنه: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}، فان المقصود ليست المقارنة بين أي صوت عالٍ وصوت نهيق الحمار، بقدر ما هي كناية عن "الصوت الذي قد يحدث صدمة عند البعض، وإلا حاشا لله أن يخلق شيئاً ثم يُدينه او يعتب عليه بما جعل فيه"، (بينات من فقه القرآن- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي)، ونفس الأمر ينطبق (الصدمة) ينطبق على ممارسات البعض في الشارع برفع أصوات الموسيقى والاغاني في السيارات والمطاعم والمتاجر مما يؤكد محاولته فرض السماع على الآخرين، وقد ابدى علماء دين تحفظهم على رفع أصوات الأذان والمراثي الحسينية بشكل يستشعر فيه الناس أنهم مرغمون على السماع، بل العكس تماماً، فالصوت المنخفض مع كلمات روحانية ذات دلالة ومعاني عميقة هي التي تخترق النفوس والقلوب.
فالصوت المنخفض من شأنه دعوة جميع افراد المجتمع الى مزيد من الاحترام المتبادل، وعدم السماح للتفاوت الطبقي الحاصل بسبب الإثراء والتطور الاقتصادي المتصاعد في الوقت الحاضر، بل وحتى التفاوت العلمي، بأن يكون مبرراً للتعالي بواسطة رفع الصوت على هذا او ذاك مهما كانت الاسباب.
اضف تعليق