الناس أعداء ما جهلوا.. أربع كلمات في قمة البلاغة، وأعلى دقّة في التعبير عن أزمة تعيشها الامة منذ عهده، عليه السلام، وحتى اليوم في ثقافتها وعقيدتها، فالحقائق موجودة فيما يتعلق بالدين والأخلاق، والأحكام، والنظم، لكنها مغيبة عن الساحة، وإلا لن يعادي الانسان مجهولاً، وإنما الآثار السيئة لهذا الجهل في النفوس...
"الناس أعداء ما جهلوا"
أمير المؤمنين، عليه السلام
أربع كلمات في قمة البلاغة، وأعلى دقّة في التعبير عن أزمة تعيشها الامة منذ عهده، عليه السلام، وحتى اليوم في ثقافتها وعقيدتها، فالحقائق موجودة فيما يتعلق بالدين والأخلاق، والأحكام، والنظم، لكنها مغيبة عن الساحة، وإلا لن يعادي الانسان مجهولاً، وإنما الآثار السيئة لهذا الجهل في النفوس، و أقرب مثال على ما نذهب اليه؛ قصة العلاقة بين الامام الحسين، عليه السلام، وأهل الكوفة بعد موت معاوية، فكانت مشكلتهم ليست مع شخص الامام، ولا مع نسبه، بل ولا حتى مع مكانته في الإسلام، ولذلك بعثوا اليه بمئات الرسائل يبايعونه فيها، إنما المشكلة كانت في معرفته الحقيقية، واين يكون، عليه السلام، في سُلّم أولوياتهم واهتماماتهم في الحياة، عدم المعرفة هذه، والجهل بحقيقة الامام، حولتهم من مبايعين له كخليفة وقائد، الى أعداء! بينما تحوّل شخصٌ مثل الحر الرياحي من قائد عسكري محترف –وليس مدني من أهل الكوفة- الى مناصر للإمام الحسين بفضل معرفته وعلمه.
الديكتاتورية والجهل صداقة حميمة
منذ القرن الماضي لاحظنا كيف أن الانظمة الديكتاتورية برموزها الفردية، او عناوينها الايديولوجية، سعت وبذلت للظهور على أنها محبة للعلم والمعرفة، من خلال تشييد الجامعات والمراكز الاكاديمية والبحثية، ونشر وطباعة الكتب والمجلات، بل وحتى إيفاد الطلبة الجامعيين الى البلاد المتقدمة اقتصادياً وعلمياً، بيد أنهم يغرون الناس بجانب من العلم والمعرفة بما يحقق لهم بعض الرغبات، من تملك ووجاهة اجتماعية، و شيء من الرفاهية، وفي نفس الوقت يوفر الشرعية لوجودهم في السلطة، مما يلغي الحاجة للتفكير بالتغيير والإصلاح، وحتى انتقاد قضية ما في البلد، فهم يظهرون شيئاً ويخفون أشياء كثيرة ذات صلة بحيات الناس ومستقبلهم.
ويستمر هذا الامر الى اليوم لاستمرار الحاجة الى التجهيل، فهو صمام أمان الشارع من الانفجار بوجه السلطة الحاكمة اذا ما انكشفت امامه كل الحقائق، إنما الفارق بين الأمس واليوم، أن الناس في تلك الأيام لم يكن يجرؤون على التفكير بمفهوم الديكتاتورية، فضلاً عن شخصية الديكتاتور، وخلفيته الاجتماعية، وكيفية تسلقه الى قمة السلطة، خوفاً من الانزلاق في متاهات السجون وغرف التعذيب حتى الموت، لذا لن يجدوا حاجة لمعرفة اكثر مما يعطيهم القائد الضرورة، أما اليوم فان الناس ليس فقط تفكر بالديكتاتورية وشخص الديكتاتور، بل وتتحدث عنه ليل نهار بالسخرية تارةً، وبالنقد اللاذع، وحتى بالسب والشتم تارة اخرى، ولكن حالهم يشبه القنبلة المنزوعة الصاعق، فهي تملك قابلية الانفجار لكنها في الواقع مثل دمية يتقاذفها الاطفال، والسبب؛ في الجهل بطريقة تحويل سيل المعلومات عن فساد هذا وسرقات ذاك، الى حركة حقيقية على الارض من شأنها إصلاح الواقع وتغييره.
هذا ما يريده الحكام اليوم ورجال السياسة؛ معارف وهمية ومعلومات مصدرها الانترنت، وذهنية علمية استنساخية (درخية) تجعل الجميع يدور في دوامة الأمر الواقع رغم تحسسهم المعاناة والأزمات، بل وحتى معرفتهم مصدر المشكلة دون القدرة على فعل شيء مؤثر، بينما كان العلم والمعرفة لدى الجيلين السابقين مصدره مؤلفات لمفكرين ومصلحين وعلماء اجتماع واقتصاد ودين، فكانوا يشكلون شريحة مثقفة على درجة عالية من الوعي، ولكن؛ لم تسمح لهم الديكتاتورية الفردية والحزبية من ممارسة دور القيادة، بخلاف اليوم؛ حيث يعد الجميع انفسهم قادة ومثقفون ومنظرون في كل شيء إلا في تغيير واقعهم المزري.
إن الوقوف عند محطة معينة من العلم والمعرفة يعني النزول الى مستنقع الجهل بشكل غير محسوس، ربما يكون الاستشعار بعد حين، وفي النتائج والعواقب، فمن يدرس الطب والهندسة والاقتصاد والسياسة والاجتماع وسائر العلوم الحديثة مثل؛ الفضاء، والنانو، والاحياء المجهرية، ماذا يرجو ويطلب غير شهادة مرموقة في اختصاصه؟ وهو حقٌ مشروع، ومطلب سامٍ، والصحيح ايضاً؛ أن ينفتح العالم المختصّ بجانب معين على سائر العلوم والمعارف في الحياة حتى يكون له رأيه الصائب في الوقت المناسب عند حدوث الازمات الاقتصادية او السياسية أو حتى في الدين والعقيدة، ولعل يفسر لنا حرص النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، على العلم والمعرفة من أول أيام انطلاق الرسالة، وتشكيل الدولة الاسلامية والمجتمع الاسلامي، فهو يفضل العلم على المال، وهو عامل قوة –كما هو معروف- ويطلب من أول وجبة أسرى حرب لديه بأن يجعلوا فدية إطلاق سراحهم تعليم المسلمين القراءة والكتابة، وايضاً؛ حديثه المشهور: "اطلبوا العلم من المهد الى اللحد"، فأيّ علم هذا يطلبه الانسان حتى آخر لحظات حياته!
"الجندر" والحيرة القاتلة
سقنا هذه الفكرة الجديدة مثالاً على الفراغ الذهني الرهيب إزاء مفهوم اجتماعي ونفسي جرّبه الغربيون منذ سنوات، كما جربوا زواج المثليين في ثمانينات القرن الماضي، وقبلها؛ الاباحية الجنسية والاجهاض منذ الخمسينات، وكلها تمثل وصفات علاجية لمشاكل اجتماعية ونفسية يعاني منها الانسان الغربي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية جراء الحياة الميكانيكية وتحول الانسان الى صامولة في ماكنة الاقتصاد والانتاج والبحث عن أعلى مستوى من الارباح.
والقضية بكل بساطة ووضوح؛ استبدال مصطلح "الجنس" للتمييز بين الذكر والانثى بمصطلح "النوع"، لأن الجنس شيء ثابت، بينما النوع متغير حسب الظروف والرغبات، فكانت الصدمة عنيفة في المجتمعات الاسلامية التي ما تزال لم تقل كلمتها الحاسمة، و ربما لم تصدق ما يجري وما يخطط له على أرض الواقع، وفي هذه اللحظات تحديداً يقف الجميع عند نقطة الجهل المظلمة إزاء ما يجب فعله، بينما تقف الشريحة المثقفة بين متفرج، ومحذر، وبين من يهدأ من روع الناس، ويخفف من وطأة ما تنشره وسائل التواصل الاجتماعي من تحذيرات وتهويلات عن مخاطر هذه الفكرة، وأنها ربما أن تكون "ايجابية"! في حين يعجز هؤلاء عن إنارة الفكر والمعرفة بالخزين الهائل من العلوم والآداب والتراث الذي خلفه لنا الصالحون و ايقونات النجاح والتفوق البشري منذ قرون خلت مثل أمير المؤمنين، والامام السجاد، والامام الصادق، عليهم السلام، الذين عرفهم الغربيون قبل المسلمون منذ أمد بعيد، و وجدوا في نهج البلاغة، والصحيفة السجادية ورسالة الحقوق، من كنوز معرفية تجعل الحياة الزوجية والعلاقات الاجتماعية، ونظام الحياة بشكل عام منطلقاً نحو التقدم والسعادة، عندما يتلمس الانسان الأمن والحرية والمساواة والحب.
هذه الفكرة او غيرها ليس فقط لا تؤثر، بل لا تفكر باختراقنا عندما يكون أسوار المجتمع والامة عالية بالعلم والمعرفة والثقافة الأصيلة، حتى السلطات الحاكمة لا تتجرأ على خوض معترك ثقافي وفكري مع الناس، فهي لا تفرض شيئاً لا أساس له في النفوس والاذهان، بقدر ما تقدم شيئاً على طبق من الجهل يحسبه الظمآن حقيقة كاملة و اساس في الحياة، "والانسان الجاهل لا يستوعب الحقيقة، واذا لم يستوعبها فسوف يتصورها ضلالاً أو منكراً، ويتصور ان الحقيقة تكمن في غيرها، او في عكسها"، (محاضرات ثقافية- السيد جعفر الشيرازي).
إن الواقع المصطنع حالياً يقضي بأن يكون الانسان متفوقاً و منتفعاً ومتحرراً بكل ما أوتي من قوة، و بأي وسيلة وطريقة كانت، وهذا ما يُثقف له في المدارس والجامعات والاسواق وحتى داخل البيوت، فهذه هي حقيقة الحياة التي تجلب لك السعادة وليس الأخلاق والدين والانسانية.
اضف تعليق