تضخيم الطموحات دون حساب الامكانيات بدعوى التطلّع الى المستقبل، والحماس للحصول على الافضل، لاسيما في وقتنا الحاضر الذي يعجّ بمغريات معرفية وثقافية تجذب الشباب قبل غيرهم، فترسم لهم صوراً جميلة عن الحياة تدفعهم لعقد الآمال للحصول عليها، في هذه الحالة من الصعب الفصل بين الاماني والتطلعات البعيدة، والواقع على الأرض...
"رزانة العقل تختبر في الرضا والحزن"
أمير المؤمنين، عليه السلام
نفضّل السخط بدل الرضى حتى لا نُتهم بالفشل والخسارة في مجالات عديدة بالحياة، مثل؛ التجارة، والتعليم، والأسرة، بدعوى الافتراض أن بامكاننا –أو كان بالإمكان- تحقيق الأفضل.
رد الفعل النفسي هذا يغيب حقائق من شأنها الطمأنة على أن الفشل او العجز ليس دائماً يمثل منقصة او مثلبة على صاحبه عندما يعرف أنه ليس المسؤول عن كل ما يدور حوله، وايضاً كل ما يجري في العالم، وفي الكون، وليس بوسعه التأثير إلا بمقادير معينة، فما عليه سوى العمل وبذل الجهود العضلية والذهنية وترك النتائج على الله –تعالى- الذي وضع خطين متوازيين في الحياة أمام الانسان؛ الأول: القوانين والسنن، وهي ثابتة لا تتغير، إن التزم بها نجا و فاز، والخط الثاني: الحكمة، فالشاب يختار الزوجة الصالحة للزواج على أمل الحياة السعيدة، بيد أن هذا الأمل بالسعادة يتحول الى تعاسة عند البعض عندما يعرف أنه لن يُرزق بذرية لسبب أو لآخر، أو ربما يخوض غمار العلم في الجامعة على أمل النجاح والتفوق للحصول على المهنة المناسبة، بيد أن هذا الأمل ينهار بحصوله على نتائج صادمة في الامتحانات، او يحصل على الشهادة لتكون صالحة لأن تعلق على الجدار مثل لوحة فنية، فهو اتبع السنّة الإلهية، ولكن تعترضه الحكمة الإلهية بأن ثمة تقديراً آخر له غير الذي كان يدور في رأسه من آمال وأمنيات.
لماذا نخسر الرضى؟
الرضى ليس الاستسلام مطلقاً، فهو يقع نهاية خارطة طريق الانسان في الحياة، وليس في بدايته، فهو الساعي والباذل بكل ما يملك من قدرات لتحقيق المطلوب، ويأتي الرضى ليكون محطة استراحة وإعادة النظر في الحسابات، وما يمكن تقديمه في قادم الأيام مما هو أفضل، فإن لم نكن حصلنا على النتائج المرجوّة، فأننا استفدنا مما لدينا من قدرات وامكانات، كما أننا ربحنا الاطمئنان النفسي وراحة البال بأننا على الطريق الصحيح.
أما الباحثين عن الربح السريع والنتائج بكل ثمن فهم يخسرون حاضرهم ومستقبلهم معاً، رغم دعواهم بالحرص على المستقبل وضرورة استحصال النتائج مما عملوه، كما يخسرون راحتهم النفسية، وما ينعكس هذا سلباً على المحيط الأسرة والمحيط الاجتماعي عندما يفقد البعض توازنه في تعامله زوجته، و أولاده، او مع أبويه واخوانه وأقربائه، وحتى مع اصدقائه، فأي خسارة تكون هذه!
كل هذا تقف خلفه اسباب ذاتية، وثمة سببين، ربما من جملة اسباب:
السبب الأول: تضخيم الطموحات دون حساب الامكانيات بدعوى التطلّع الى المستقبل، والحماس للحصول على الافضل، لاسيما في وقتنا الحاضر الذي يعجّ بمغريات معرفية وثقافية تجذب الشباب قبل غيرهم، فترسم لهم صوراً جميلة عن الحياة تدفعهم لعقد الآمال للحصول عليها.
في هذه الحالة من الصعب الفصل بين الاماني والتطلعات البعيدة، والواقع على الأرض، فعندما يتضح صعوبة تحقيق الاماني والامور الافتراضية على واقع مغاير، و ربما استحالتها، تنشأ حالة القلق والاضطراب والانطواء على الذات عند الشباب، وايضاً؛ عدم التفاعل مع المحيط الاجتماعي، واحياناً نشهد القطيعة وما يعقبه من حصول أزمات في منظومة العلاقات الاجتماعية بسبب هذه القطيعة، وهذا الوضع النفسي المتأزم.
وإن حاول بعض المقربين المساعدة، فان عليه تقديم؛ ليس فقط يد المساعدة، بل كل ما يملك لتلبية رغبات هذا الطامح المجنّح، لاسيما؛ الأبوين، فهما الأقرب والأكثر حرصاً على حياة ابنائهم، ويرغبون من أعماق قلوبهم نجاحهم وراحتهم، بيد أن طريق القلق الطويل يسحب هؤلاء جميعاً، ويسحب معهم قدراتهم وامكانياتهم، وحتى راحتهم.
السبب الثاني: الإصرار على التفوق والحصول على قصب السبق من الآخرين، ورؤية زميل في المدرسة والجامعة، أو في محيط العمل، قد تطور وتقدم في دراسته وعمله، فان بقاءه في مكانه يُعد مهانة ومحل سخرية الآخرين، وهذا ينسحب –كما نلاحظه- على شريحة كبيرة من النساء؛ سواءً على صعيد المنطقة السكنية (الجيران)، او في محيط العمل والدراسة، مما يجعل صاحبه غير مرتاح البال قبل ان يحصل على ما حصل عليه الآخر، بل وأكثر منه.
ومن تتحدث عن الرضى بما لديها، تكون عرضة للسخرية والاتهام بالتخلف والجمود، وهو ما يكلف صاحبه جهداً إضافياً لصدّ الانعكاسات السلبية على النفس اذا ما اراد تبني خيار الرضى والقناعة بالموجود.
أركان الإيمان تتعرض للخطر
أن يتصور الانسان أنه قادر على كل شيء، وبإمكانه فعل المستحيلات –كما نسمع ونقرأ- فهذا يشكل مصدر خطر على ذاته هو، ثم على حالته العقدية، و إيمانه بالله –تعالى- فـ"الدين شجرة أصلها التسليم والرضى"، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام، وفي "غُرر الحكم ودُرر الكلم"، له، عليه السلام، الكثير من هذه الوصايا الدالة على طريق السلامة من خلال الركون الى الرضى بما يقدره الله –تعالى- للإنسان، وعدم التطاول في عالم افتراضي بعيد عن الواقع مما يلحق الضرر بصاحبه قبل أي شيء آخر، فيقول، عليه السلام: "من تسخّط بالمقدور حلّ به المحذور"، وأن "الرضى ينفي الحزن".
فمن أجل الحصول على الرضى النفسي والقلبي نحتاج الى آليات، او طرق عملية.
خلال قراءتي مناجاة أمير المؤمنين، عليه السلام، في هذه الأيام من شهر شعبان، جذبني مقطع رائع: "إلهي! ما أظنّك تردّني في حاجة قد أفنيت عمري في طلبها منك".
فاذا قوينا علاقتنا بالسماء، وبالقدرة اللامتناهية، وبالرحمة التي تسع السموات والأرض، نكون على يقين بأننا لن نخسر شيئاً مطلقاً، لان الله –تعالى- ناظرٌ لما نعمل، ويراقب كل حركة وسَكَنة فينا، ومن ثمّ؛ فنحن لسنا وحيدين في هذه الحياة، فاذا لم يحصل الانسان على مبتغاه في هذا الطريق، فان نفسه المطمئنة ستحقق له الأفضل في طريق او مجال آخر بحياته، عندئذ يمكن استشعار الرضى والاستقرار النفسي، بعكس من يستشعر الوحدة، وينتظر النتيجة ببالغ القلق، فهذا، وإن حصل على شيء مما ينتظره فانه لن يسعد به، لعدم وجود ضمانة التطابق بين حجم القلق والتوقعات العالية وبين هذه النتيجة، فتكون دوامة القلق مستمرة، والطلب المتزايد للأكثر الى ما لانهاية.
اضف تعليق