يضيء سماحة الفقيه الشيرازي لنا ثلاث خطوات متتالية توصلنا الى تحقيق الورع عن محارم الله، وليكون هو بدوره القاعدة التي ننطلق من خلالها في عملية تهذيب النفس بكل ثقة واقتدار: الخطوة الاولى هي عدم التفكير في الحرام، اما الخطوة الثانية فتكمن بالابتعاد عن أجواء المحرمات، بينما الخطوة الثالثة تتمثل بالاحتياطي الروحي...
كم هي جميلة الاشجار المقلّمة في الحدائق والشوارع!
انها تضيف مسحة من الجمال على فوائدها الصحية وسط كم هائل من الغازات السامة المنبعثة من عوادم السيارات، والغبار المنتشر في الاجواء، فهي تتميز عن سائر الاشجار بأشكالها الهندسية من دائرية ومثلثة ومربعة، واشكال مختلفة اخرى.
هذا التقليم والتشذيب يرافق حياة هذا النبات، فهو ينمو باستمرار، ثم تزوره بين حين وآخر مقصّات عمال البلدية ليجعلوا منها، ليس فقط شجرة خضراء بأوراقها، وإنما تحفة فنية تسرّ الناظرين.
هكذا الانسان؛ ينمو بدنه تدريجياً، وتنمو معه طباع نفسية تكمن في داخله بجانبيها؛ السلبي والايجابي، ثم تظهر في الواقع الخارجي في حالات معينة، مثل؛ الجُبن او الشجاعة، والأنانية أو الايثار، والبخل أو الكرم، وقد أشار العلماء الى ضرورة وجود عملية التشذيب او التهذيب لهذه النفس لتأخذ المسار الايجابي وتعطي سلوكاً مفيداً للواقع الاجتماعي، ومن أبرز هؤلاء العلماء؛ سماحة آية الله الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي –طاب ثراه- الذي تمر هذه الايام ذكرى وفاته، فقد أولى هذه المسألة أهمية بالغة في محاضراته الاخلاقية كونها تُعد ضالة معظم المجتمعات المسكونة بالمشاكل النفسية والباحثة عن علاج ناجع لها.
الورع المفتاح نحو التهذيب
بما ان الانسان مفطور على حب الخير والفضيلة وقيم الحق، فانه يرغب أن يكون صالحاً وإن لم يكن كذلك في الواقع العملي، فهو "لا يؤدي نافلة الليل لكنه يشعر بالحنين إلى أدائها"، وفي السلوك العملي يستشهد سماحته بمن يصادف امرأة متبرجة فاذا انساق بشهوته نحوها، وملأ بصره بالنظر اليها، "سيغمره شعوراً بالحقارة والتفاهة"، والعكس بالعكس تماماً، وهذا ينسحب على سائر الافعال والمواقف التي يقف فيها الانسان بين الالهام النفسي نحو الفجور، والالهام نحو التقوى.
بيد أن القضية لا تُحل بالتمنيات بقدر ما تحتاج الى إرادة وعزيمة من صاحبها، فالتهذيب عملية مرهقة تحتاج لممارسة ضغوط ومواجهة تحديات من نوع خاص، ولا ننسى دور الشيطان في هذا المضمار، فإن لم يكن يأمر الانسان صراحة بارتكاب الموبقات والرذائل الموجبة للعقاب الاجتماعي والخزي والعار، فهو يعمل على إثارة البواعث الايجابية للأنانية أو الكِبر، أو الغضب –مثلاً- ويزينها له لتكون من الضروريات ولوازم الحياة! وربما يدرجها –الشيطان- ضمن الحقوق المسلّمة والمشروعة!
هنا يأتي سماحة الفقيه الشيرازي ليضيء لنا ثلاث خطوات متتالية توصلنا الى تحقيق الورع عن محارم الله، وليكون هو بدوره القاعدة التي ننطلق من خلالها في عملية تهذيب النفس بكل ثقة واقتدار:
الخطوة الاولى: عدم التفكير في الحرام
"إن التفكير في الحرام هو الخطوة الأولى إلى التورط فيه، بل أكثر من ذلك أن يحاول الفرد عدم تصور الحرام بقدر الامكان، وإن كانت التصورات أمور غير إختيارية، فهي تهجم على الذهن بلا استئذان، ولكن بقدر ما يتمكن الانسان أن يحد من هذه التصورات".
بالمقابل يمكن التفكير بالأمور الايجابية الباعثة على الصلاح والفضيلة من خلال التقرّب من مصادر هذا التفكير، وهي كثيرة في اوساطنا، مثل المكتبات والهيئات الحسينية، والمؤسسات الثقافية التي تضخ الفكر والثقافة من خلال محاضرات ومطبوعات، وايضاً؛ مواقع الانترنت البعيدة عن التفاهة والإثارات الكاذبة، والبحث فيها عن الافكار التنموية الباعثة على روح المسؤولية والبناء الذاتي.
الخطوة الثانية: الابتعاد عن أجواء المحرمات
هذه الخطوة تجيب عن آلية تحقيق الخطوة الاولى، لاسيما وأن المغريات، ووسائل التضليل تحيط بشريحة الشباب تحديداً فضلاً عن سائر افراد المجتمع، مع ترغيب لخوض هذه الاجواء بدعوى الحرية الشخصية، او "التجربة قبل إطلاق الاحكام"! بيد أن الفقيه الشيرازي يقدم خياراً اكثر عقلانية ومنطقية لتجنب الخطأ، "فالقانون الوضعي ينهى عن الظاهرة الضارة، لكن الدين ينهى عن الظاهرة الضارة وينهى عن كل ما ينتهي إليها، هذا هو الفرق المهم بين الاثنين، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى {لَا تَقْرَبُوا}،و لعل معنى هذه الكلمة ليس لا تعملوا، بل يجب أن لا يقرب الانسان هذا الشيء، أي أن لا يكون قريبا منه، ولعل معنى ذلك أن يبتعد عن المقدمات، لذا يقول الفقهاء إن مقدمات الحرام محرمة بالحرمة الشرعية والعقلية أو بالحرمة العقلية"، وهذه من البنود القانونية الغاية في التحضر بالإسلام تضمن للانسان والمجتمع السلامة في الفكر والسلوك، بينما القوانين الموجودة في العالم مهمتها العقاب وحسب، بينما الإسلام يضع الإشارة الحمراء أمام الرجل بأن لا يختلي بالمرأة في غرفة واحدة حتى لا ينفتح الطريق للسقوط في الخطأ.
الخطوة الثالثة: الاحتياطي الروحي
مثله مثل الاحتياطي المالي لجميع دول العالم في البنوك العالمية حيث تودع فيها احتياطي العملة الصعبة والذهب لتحقق القيمة المناسبة لعملتها المحلية، هكذا الانسان في عملية تهذيب نفسه، فهو بحاجة الى احتياطي كبير يمنحه القوة لإتمام هذه العملية بنجاح.
ويستشهد سماحته بممارسات عبادية مثل صلاة الليل التي يقول إنها ليست واجبة "لكنها تمثل إحتياطي التقوى، فأين تنفعنا هذه الصلاة ؟ إنها مضافاً إلى معطياتها الكثيرة فهي تنفع وتمد الانسان عندما يتعرض لظرف إستثنائي، كذلك قراءة القرآن، والنوافل، والمستحبات، والحج والعمرة، و زيارة الإمام الحسين، صلوات الله عليه، كل هذه الامور تخلق في النفس إحتياطياً يحفظ الفرد في الأوقات الإستثنائية".
إن الأجواء والطقس له دور بالغ التأثير في تشكّل القناعة والتصور لدى الانسان إزاء كثير من الامور، فاذا وضع الانسان نفسه في أجواء مثل أجواء المراقد المقدسة –مثلاً- او قام بزيارة لأحد المساجد التي تقام فيها المحافل القرآنية، او تُحيى فيها مناسبات أهل البيت، وحتى حضور المكتبات والندوات والمحاضرات، كلها تمثل أجواء مساعدة في تشكّل صورة متكاملة –الى حدٍ ما- عن الدين والأخلاق والتاريخ، وكل مفردات الثقافة الاسلامية، والعكس بالعكس تماماً، وهذا يكون من خلال تشجيع الآباء للأبناء، والأصدقاء فيما بينهم، والزوج لزوجته وافراد عائلته، وحتى الجار لجاره لتكون عملية التزوّد بعناصر الورع والتقوى حالة اجتماعية عامة يجد فيها افراد المجتمع الفرصة للمقارنة بين ما يسمعونه ويرونه من مصادر أخرى، وما يجدونه أمامهم من حقائق دينية وانسانية تميز لهم الصواب عن الخطأ، والحق عن الباطل.
اضف تعليق