يُراد للثقافة ان تكون مرآة لهوية الافراد والمجتمعات تعكس سلوكهم وطريقة تفكيرهم وحياتهم، ففي العالم هنالك ثقافة الانتاج والعمل، وثقافة العنف، وثقافة الدين، وثقافة الفن والأدب، فنرى شعوب محبّة لفن النحت والرسم، وأخرى، للشعر والأدب، كما لدى الشعب الايطالي والشعب الفرنسي، بينما نلاحظ ثقافة العنف يتسم بها الشعب الاميركي...
يُراد للثقافة ان تكون مرآة لهوية الافراد والمجتمعات تعكس سلوكهم وطريقة تفكيرهم وحياتهم، ففي العالم هنالك ثقافة الانتاج والعمل، وثقافة العنف، وثقافة الدين، وثقافة الفن والأدب، فنرى شعوب محبّة لفن النحت والرسم، وأخرى، للشعر والأدب، كما لدى الشعب الايطالي والشعب الفرنسي، بينما نلاحظ ثقافة العنف يتسم بها الشعب الاميركي منذ نشوء الدولة الاميركية اساساً، مما جعل حمل السلاح بدعوى الدفاع عن النفس أمراً ليس فقط مشروعاً ومقنناً، وإنما من لوازم الحياة لدى الكثيرين في هذا البلد.
هذه الواجهات الثقافية والحضارية لا يستوعبها ميزان ومعيار واحد لحسن هذا وقبح ذاك، فهي لهذا الشعب ربما تكون غير صحيحة وغير مُجدية، بينما تمثل لاصحابها العكس تماماً.
مع ذلك تبقى انطباعات الانسان مرتكزة على قواعد نفسية ثابتة، فالانسان في أي مكان بالعالم يندفع فطرياً لطلب الأمان والحرية والكرامة وأن لا يتعرض للظلم والخداع والتضليل، وهذا يتطلب منظومة قيمية أصيلة تحفظ كل هذه الاستحقاقات الانسانية الكبيرة في كل جوانب الحياة.
وبما أن الانسان مكوّن وجودياً من عنصرين أساس؛ المادة والروح، فانه بحاجة الى المنظومة القيمية التي تلبي حاجة العنصرين لتكون ثقافته بكل مظاهرها من لغة وتاريخ وعادات وتقاليد مصطبغة بتلك المنظومة القيمية الأصيلة، "فهناك الكثير من الثقافات لا تلبي الحاجة النفسية والروحية للإنسان، فقد نجد أن بعض الثقافات متطورة مادياً، لكن الشعوب التي تحمل هذه الثقافات فيها الامراض النفسية". (محاضرات ثقافية- السيد جعفر الشيرازي).
الأخلاق صمام أمان
لاشك أن الأخلاق حاضرة في عادات وتقاليد وآداب الشعوب، فثمة منظومات اخلاقية تلقي بظلالها على تلكم الثقافات، إنما المهم؛ الشمولية والتكاملية في المنظومة الاخلاقية لتشمل برعايتها جميع تفاصيل حياة الانسان؛ هذا من الناحية النظرية، ومن الناحية العملية، ان تكون الوسائل لتطبيق هذه المنظومة نزيهة وطاهرة بعيدة عن كل ما يعاكس الفطرة الانسانية، فعندما تتبنى ثقافة ما مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" فانها تضع قدمها على الأخلاق قبل ان تطبق هذا المبدأ النفعي لتحقيق اهدافها وطموحاتها، وإن كانت اهداف نبيلة مثل تطبيق العدل والقانون الذي نراه في كثير بلدان العالم يمر عبر الظلم والجور لشريحة من الناس لحساب شريحة أخرى مقتدرة ومتنفذة في المجتمع.
وحتى لا نشهد مآلاً ثقافياً كالذي تشهده بعض شعوب العالم، فان الأخلاق يلعب دور صمام أمان من تشكّل العناصر الثقافية على أسس غير سليمة، وذلك من خلال التأثير المباشر على ثلاث أمور – من أمور عديدة- ذات مدخلية في صياغة الثقافة:
1- التأثير على طريقة العمل لكسب الرزق (المال) وسائر التعاملات البينية، فالأخلاق يتدخل في كل صغيرة وكبيرة ليضع الموازين الصحيحة لهذه التعاملات بما يضمن القاعدة الذهبية التي أرساها النبي الأكرم: "لا تَظلِمون ولا تُظلَمون"، وإلا فان معاملة البيع والشراء كانت صحيحة بين الرجلين في عهده، صلى الله عليه وآله، بيد أن موقف غير منطقي ولا عقلاني من البائع بالابقاء على نخلة او أكثر وسط ارض زراعية تبرر له دخول المزرعة دون إذن من المالك الجديد، دفع برسول الله لأن يحسم الأمر بقلع النخلة وتعويضه بعد إصرار غريب بعدم التنازل عنها.
الانسان له حق التملك وحرية العمل شرط التأطير بحقوق الآخرين وحرياتهم، ثم جاء الاسلام ليضفي قداسة بارعة على ثقافة السوق بأن يكون للأخلاق دورٌ محوري في البيع والشراء يرضي البائع ولا يغبن المشتري، كما نلاحظ اليوم لدى الكثيرين في السوق –في العراق- بالتزامهم بعادة "دكّة ميزان"، أو إعطاء زيادة بسيطة على الوزن لمصلحة المشتري لتحاشي التطفيف في المكيال، وحتى لا يكونوا من اصحاب الويل في سورة المطففين {ويلٌ للمطففين}.
2- تنتاب الانسان نوازع نفسية تدفعه لأن يفرض نفسه على الآخرين فيما يراه من السلوك والتفكير، والانسان؛ الفرد الواحد، والمجتمع على حدٍ سواء، مثلاً؛ نزعته نحو التحرر والتحلل مما يراه قيوداً والتزامات ثقيلة بدعوى اكتساب الحرية في طلب العلم، ثم الاستفادة من ثمرة هذا العلم في العمل، ومن ثم التصرف بالمردود المالي لهذا العمل، والانطلاق في رحاب الحياة بما يلبي رغباته النفسية، كما نلاحظ بعض الشواهد في الجامعات والمراكز الاكاديمية عندما يكون التصور بأن التواجد في هذه الاماكن يغنيه عن الأسرة وعن القيم الدينية والموازين الشرعية ما دام لديه موازين علمية، وتحكمه ظروف اقتصادية، ومثال ذلك؛ الزواج المفترض ان تبدأ خطواته من داخل الأسرة لإنشاء أسرة مماثلة أخرى، وربما بمواصفات أرقى واكثر نجاحاً، بينما نلاحظ التوجه نحو الاستقلالية عن الأسرة في هذا المشروع الحيوي، ومن ثم انحناء الأسرة أمام رغبات الشباب بدعوى التراضي والتوافق والمعرفة القريبة –حسب المُدعى-.
3- أما الأمر الثالث فهو المثيرات الخارجية المستفحلة بسبب تغوّل تقنية الاتصال والتواصل بين بني البشر مع فقدان التناسب في الوعي والفهم، فربما يكون الخطاب عن ثقافة معينة الى مجتمع ما، وهذا المجتمع ذو الثقافة والتاريخ والحضارة يجهل ما لديه من رصيد ثقافي وحضاري، فإن سينحني أمام من يقدم له الثقافة بغلاف جميل وجذاب فانه سيفضله –قطعاً- على ما مدفونٌ في بطون الكتب وفي اذهان العلماء والحكماء مهما كانت عظيمة وعلى الصراط المستقيم.
وبما أن القيم الاخلاقية تنظر الى عواقب الأمور وتحسب النتائج في المستقبل، و تراعي ايضاً الحال الحاضر، فانها تضمن لصاحبها عدم الوقوع في الخطأ والتناقضات التي نلاحظها اليوم، ويكون هو أول من يدفع ثمنها، كما في ثقافة السوق النفعية، وما تجره على الناس من ويلات الربا والفوائد على القروض، او الثقافة الجنسية المرتبطة بالرغبة والشهوة اكثر من ارتباطها بالعقل.
المصاديق العملية
الثقافة جسم بكامل تفاصيله، والأخلاق الثوب بكامل تفاصيله، والذي يحميه ويستره، فكلما أتقن الثوب دوره مع كيان الانسان وروحه ونفسيته، كلما تمكنا من المباهات بثقافة راقية أمام سائر الشعوب والأمم.
ولو تصفحنا سيرة الأئمة المعصومين، ممن لهم الفضل في صناعة الثقافة الصحيحة والمتكاملة الأبعاد، لوجدنا الأخلاق ممزوجة مع الأحكام والتعاليم التي قدموها لنا في حياتهم، فقد كانت اللغة الاكثر استخداماً كونها الأكثر فهماً وقرباً الى القلوب والنفوس، لذا نقرأ في مواقف عديدة من حوارات جرت بينهم وبين معارضين لهم، وحتى أعداء، الآية الكريمة التي يستشهدون بها: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}، وهذا لم يأت لأنه الأئمة افحموهم بالعلم والمعرفة والمنطق، وإنما بالأخلاق الحميدة، وعدم رد الاساءة بمثلها.
ثم بينوا الآليات العملية لأن تكون الاخلاق القائد للثقافة، عندما تكون هذه الاخلاق في سلوكنا وفي فكرنا ايضاً؛ فثقافة الاحترام –مثلاً- يجب ان تكون وفق معايير أخلاقية، بدءاً من الأبوين وافراد الأسرة، ثم العالم الخارجي بكل ميادينه، فالاحترام ليس مقابل المال او الطعام اللذيذ او الهدايا والهبات وغيرها، بل انطلاقاً من كونه أب أو أم، أو أخ كبير، حتى وإن كان الوضع الاقتصادي هو الفقر المدقع، او الحال الظاهري مرض عضال، كأن يكون الانسان مشلولاً مسجّى على الفراش، وكذا الحال بالنسبة للعناوين المهنية، مثل؛ الوظيفة في الدولة او المكانة المرموقة في السوق، فان الاخلاق تدعو للاحترام سواءً كان الطرف المقابل في منصب حكومي مرموق، او شرطي مرور، او كان تاجراً صاحب رساميل ضخمة وعقارات او كان كاسباً يفترش الارض لبيع بعض الاشياء البسيطة.
ولعل هذا يفسر لنا احترام الأئمة الاطهار للفقراء والبسطاء من افراد المجتمع آنذاك، ومجالستهم والتحدث اليهم اكثر من غيرهم، كما تنقل لنا مصادر التاريخ، بل وتجنب دعوات وموائد الاثرياء في مكان "عائِلَهم مجفوٌّ وغنيّهم مدعوٌّ" كما جاء في رسالة أمير المؤمنين الى واليه على البصرة، عثمان بن حنيف.
اضف تعليق