العالم كله كما يقول العارفون، يقوم على التوازن والاحترام المتبادَل، وعندما تختل رؤية الانسان حول هذه الموازين، يحدث خلل في فكر وسلوك الانسان، ينعكس على طريقته في التعامل مع الآخرين، هذا الكلام لا ينطبق على الأفراد فقط، بل ينطبق على الجماعات وعلى الدول أيضا، فعندما تكون الدولة مستقرة متوازنة داخليا وخارجيا ومنهمكة بالتطور، فلا شك أنها تضع شرط التوازن ضمن أولوياتها في التعامل مع الداخل والخارج، أي مع الشعب داخليا، ومع الدول الاخرى خارجيا، ومن محاسن التوازن أنه يقود بالنتيجة الى احترام الآخر، فردا كان أم دولةً، وعدم تسقيطه، أو التقليل من شأنه، او التركيز على خطيئته إن كانت خطيئة أصلا، لأن الاحترام يُعَدّ من أهم الأساليب التي تعتمدها الدولة ذات السياسة المتوازنة او الانسان المتوازن في ادارة نشاطاته وعلاقاته مع الاطراف الاخرى.
إننا نستطيع أن نجد في حياتنا ومن خلال تجاربنا الخاصة، أو من خلال ملاحظتنا لما يدور حولنا، سواء بخصوص العلاقات بين الافراد، او الدول، ولا شك أننا تعرّفنا على النوعين، المتوازن وخلافه، كما أننا حتما لاحظنا محاسن الاول، والاضرار التي يتسبب بها الثاني للآخرين ولنفسه!.
فدولة من اليابان على سبيل المثال، لا احد يستطيع أن يقول أنها غير متوازنة، على الرغم من انها تراعي مصالحها في علاقاتها من الاطراف الاخرى كافة، وهذا امر مكفول اخلاقيا وعرفيا وقانونيا، أي من حق الافراد والدول ان تراعي مصالحها، ضمن عملية التوازن التي تحكم علاقاتها، لكن هنا يبرز شرط آخر هو الانصاف، بمعنى أن مراعاة المصالح المقرنة بالتوازن، ينبغي أن تقترن ايضا بالانصاف، من هنا تفرض الانسانية على الفرد والدولة أن لا يتسبب حرصها على مصالحها بإلحاق الضرر بالآخرين، ولا ينبغي أن يكون الظلم والبغي اسلوبا وطريقا لتحقيق الاهداف وضمان المصالح الفردية والدولية.
يقول الامام علي عليه السلام: (من سلَّ سيف البغي قُتل به).
وهذا القول يؤكد لنا، أن فقدان الانسان الحاكم او غيره للتوازن، سيقوده للظلم، وينطبق هذا على الدول أيضا، ومن الاسباب التي تدفع النفس والعقل والقرار نحو الظلم، رؤية الانسان لخطيئة الآخر ونسيانه لخطيئته، فهو عندما لا يرى خطيئته، سوف يستعظم خطيئة الآخر، وهذا النسيان او التناسي سوف يفقده عنصر التوازن، والاخير سيدفعه الى البغي ايضا، وهكذا ستكون هناك سلسلة مترابطة، اذا صحت بدايتها صحت النتائج، واذا اخطأت البداية ستكون النتائج خاطئة.
فمن يبدأ في علاقاته مع الاخرين (الفرد أو الدولة)، بفقدان التوازن، سوف ينتهي الى البغي والظلم، وعلى العكس اذا كانت العلاقات الدولية قائمة على التوازن وعدم التركيز على خطايا الآخرين، والتنبّه الى الخطايا الذاتية، فإن النتائج سوف تكون خالية من الظلم، وسوف تشجع على صنع اجواء الاستقرار للجميع، حتى يتفرغوا للتقدم والابداع والتطور.
أما اذا حدث العكس، فإن الاجواء سوف تُصاب بالاحتقان، وسوف تكون النتائج خسارة الاستقرار بالنسبة للدول او حتى الافراد، ومن ثم الانشغال بالدسائس والاحتيال، والمضاربات والمماحكات ونشر الغسيل المتبادَل، بدلا من الاحترام المتبادل، وكما اثبتت التجارب، فإن من يبدأ بالظلم سوف لا تُحمَد عاقبته، وسوف يكون عرضة لخسائر كبيرة صنعها بنفسه لنفسه.
وسوف ينطبق عليه قول الامام علي عليه السلام: (من حفر بئرا لأخيه وقع فيها).
كذلك اثبت علم النفس الحديث أن الظلم ينبع من استصغار الشخص للآخرين، فما بالك لو كان حاكما متجبرا، او مسؤولا تؤثر قراراته على حياة الناس؟، وحالة الاستصغار تبدأ مع الانسان عندما يغض الطرف عن اخطائه، او يجهلها اصلا فلا يراها، إنما يرى اخطاء الاخرين فقط، وهنا تبدأ خطيئة الانسان الكبرى، حيث يباشر ظلمه للآخرين في القول والفعل، أما اذا كان حاكما يتسم بالطغيان، فإنه سوف يلحق بشعبه أفدح الاضرار بسبب قراراته الظالمة، كونه يرى الناس جميعا على خطأ، اما هو فمنزّه عن الخطيئة حسبما يظن، ولكنه في الحقيقة هو نفسه عبارة عن خطيئة كبيرة، فيتغاضى عن ذلك او يجهله اصلا، فيمضي في طريق الضلال حتى السقوط التام، وينطبق هذا بطبيعة الحال على الدول عندما لا ترى اخطاءها.
لذلك يقول الامام علي عليه السلام: (من نسيَ خطيئته استعظم خطيئة الآخرين).
والحقيقة عندما يستعظم الانسان او الدولة خطيئة غيرها، إنما هو الغرور والضلال، الذي سوف ينتهي بحامله الى هزائم منكرة، وهذا ما يثبته التاريخ القديم والمنظور، فعندما ظنّ هتلر قائد النازية بأسوأ صورها، أنه سيحتل العالم ويتحكم به على هواه، بسبب البغي والغرور ونسيان الاخطاء الذاتية، ولكنه الى أين انتهى؟؟ انه انتهى بالمانيا الى الخراب والتدمير وبالعالم الى ملايين الضحايا من اوربا والعالم اجمع، وخسائر مادية فادحة، وأخيرا انتهى هو نفسه بإطلاق النار على رأسه الذي لم يستطع سوى رؤية خطايا الآخرين، أما خطيئته هو فلم يرَها حتى الموت.
لذلك لا يصح أن تغلق عينيك عن أخطائك، وتكون ثاقب النظر عندما يتعلق الامر بالآخرين، أما الاسباب التي تدفع بالانسان كي يستعظم خطيئة الاخر وينسى خطيئته، فهي في حقيقة الامر كثيرة، وقد ذكرنا بعضها فيما سبق، ويدخل ضمن اهم الاسباب في هذا المجال، الاعتماد على الرأي الذاتي، وعدم إشراك الآراء الاخرى في القضايا التي تحتاج الى مناقشة وتمحيص، فالرأي الذاتي وحده مهما كان بارعا، يبقى بحاجة الى آراء الآخرين، كونه سوف يبقى ناقصا، وعرضة للوقوع في الضلال.
كما يؤكد ذلك الامام علي عليه السلام بقوله: (من أُعجِبَ برأيه ضلّ).
اضف تعليق