q

هناك عوامل وخطوات كثيرة متبادَلة، تعمل على زيادة اللحمة الاجتماعية وتقوّي النسيج المجتمعي، ومنها التقاليد والقيم الاجتماعية، في جانبها الصحيح والجيد، فهذه القيم تمثل الخصائص أو الصفات المرغوب فيها من الجماعة، والتي تحددها الثقافة القائمة بين الافراد المشتركين في حيز مكاني واحد وتجمعهم روابط الارض والعرق والتاريخ وما شابه، وتوجد الكثير من هذه القيم مثل التسامح، والحق، والتكافل، والعمل الطوعي، والقوة المشروعة وما شابه، وتعد هذه القيم المتقدمة بمثابة ضوابط وأساليب اجتماعية، تحافظ على النظام الاجتماعي والاستقرار، وحفظ التوازن وتعضيد السلم الأهلي للمجتمع.

لذلك تعد منظومة قيم التقدم والتطور الاجتماعي رابطا مهما يجمع بين اعضاء الجماعة بعضهم بعضا، ليعرفوا من خلالها الفرق بين المشروع والمرفوض، والحلال والحرام، أو الصحيح والخطأ، والجيد والسيّئ، باعتبارها -القيم- تثمل المعيار الذي تقاس عليه سلوكيات الانسان، والتي تحددها عناصر وحيثيات الثقافة القائمة بين الناس، مثل المساواة والانصاف والعدل والامانة والجرأة والتعاون والإيثار وغيرها، وكل هذه معايير اخلاقية تربوية، تشكل أدوات وضوابط اجتماعية، تساعد في الحفاظ على النظام والاستقرار المجتمعي.

هذه المقدمة تقودنا الى قيمة مهمة، قد تواجه في ظرفنا الراهن نوعا من الضمور والاضمحلال، ونعني بها (عيادة أو زيارة المرضى)، فقد دأب المجتمع المسلم منذ قرون على احترام (زيارة المريض)، واعتبارها من الواجبات الاجتماعية التي لا يجوز اهمالها، او التعامل معها باستخفاف، نظرا لأهميتها النفسية وانعكاسها المباشر على معنويات المريض، الامير الذي يساعده على تحقيق الشفاء بدرجة كبيرة وسريعة، كما تفعل جرعات الدواء او اكثر.

وقد أكدت روايات وأحاديث شريفة على أهمية عيادة المرضى، وجعلت هذا السلوك وهذه القيمة الاجتماعية في مصاف القيم الكبيرة، التي تساعد على التقريب بين افراد ومكونات المجتمع، وتزيد من اللحمة الاجتماعية، من هنا نلاحظ أن أجدادنا كانوا يحرصون أشد الحرص على هذا السلوك، ولعلنا نتذكر ذلك حتى في المدى او التاريخ المنظور أو القريب، حيث نلاحظ مداومة المجتمع على تبادل الزيارات في هذا الشأن، ونلاحظ ايضا مدى التزام الجميع بهذه القيمة، نظرا لما لها من تأثر كبير على المريض نفسه، فضلا على تقوية أواصر العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات، على حد سواء.

لذلك يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من زار أخاً له في الله تعالى، أو عاد مريضا نادى مناد من السماء باسمه: يا فلان طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلك). هذه هي المكانة التي يستحقها من يزور المريض، ومن الواضح أن التأثير الكبير الذي تتركه هذه الزيارة في نفوس المرضى وما تتركه من تأثيرات على العلاقات الاجتماعية، وتقوية النسيج المجتمعي، هي التي تعطي لهذا السلوك الاجتماعي مكانته الراقية.

لكن واقعنا الراهن، ربما يشير الى نوع من التلكؤ في اداء المجتمع لهذه القيمة، وقد نلحظ نوعا من التراجع في تمسك بعض الافراد والجماعات بعيادة المريض وزيارة المرضى عموما، وهناك من يضع مشاغل الحياة الكثيرة تبريرا لتخليه عن هذه القيمة، فيما يقول بعضهم ان طبيعة الحياة تغيرت، فلم يعد ايقاع الحياة اليومية بطيئا كما كان في السابق، أما اليوم فالجميع يركض لاهثا نحو تحصيل المال وجمع الفلوس، حتى يستطيع أن يلبي احتياجاته الجديدة التي تلبي متطلبات العصر الراهن.

ولكن هل تصح مثل هذه الحجج، وهل يجوز للإنسان أن يتخلى عن (زيارة المرضى) بحجة ضيق الوقت أو الانشغال بتوفير متطلبات الحياة؟ وما شابه من تبريرات لا ترقى الى مساوئ ترك هذه القيمة الاجتماعية، ولا تصمد امام الفوائد الجمة التي تنتج عن التمسك بها، فقد قال الرسول محمد (صلى الله عليه وآله): (من حق المسلم على المسلم إذا لقيه أن يسلم عليه، وإذا مرض أن يعوده، وإذا مات أن يشيع جنازته).

إذاً لا يصح أن نضع التبريرات، والحجج مقابل عدم الالتزام بهذا الفعل الاجتماعي الراقي، ونتائجه الراقية، فضلا عن كونه غالبا ما يجري بصورة متبادَلة بين الجميع، الامر الذي ينعكس على طبيعة العلاقات الاجتماعية وتحسنها بصورة عامة، لهذا يرى العلماء المعنيون، ان هذه القيمة الاجتماعية، ذات فوائد لا حصر لها، ولابد أن تُعاد لها مكانتها من جديد من حيث التعامل بها، لا سيما أننا نمر حاليا في منعطف خطير على الاصعدة كافة (سياسية، اقتصادية، دينية، ثقافية)، ولعلنا اليوم بحاجة قصوى الى تعميق اواصر العلاقات، وتقوية النسيج المجتمعي، من خلال استنهاض هذه القيمة المؤثرة، وجميع القيم التي تصب في هذا الاتجاه.

علما أن الجهد الذي يُسهم في اعادة الروح لهذه القيمة الاجتماعية التقدمية وسواها، لا يعتمد على جهد محدد او جهة رسمية أو اهلية معينة، ولا على شخصية بعينها، إنما ينبغي أن يشترك الجميع من دون استثناء، في استنهاض الموروث الاسلامي الاجتماعي النموذجي، حتى يكون بمقدورنا فعلا، التصدي لحالات التلكؤ والتراجع التي نعاني منها اليوم في حياتنا، كنتيجة حتمية للتخلي عن إرثنا الاخلاقي القيَمي، بحجة تسارع العصر وما شابه.

اضف تعليق