بعد أن ذكرنا في الجزء الأول، قسم من الأمراض الاجتماعية، النفسية، في ضوء نهج البلاغة للإمام علي(ع)، التي كانت تضم: المداهنة والمصانعة، الإطراء، الكبر والأثرة، الجحود ونكران المعروف، سنتناول في هذا الجزء أمراض آخرى وهي: الحقد والغل والبغض، الحسد والتنافس، الغضب والحدة. لابد من التأكيد هنا أن هذه الأمراض الاجتماعية، تـُعد لون من الضغائن الهوجاء، تصيب القلوب، تضمر العداوة والكراهية والمقت والتناحر والتشاحن والتدابر، تتميز بها نفوس ضعيفة، حاقدة، حاسدة، غاضبة.
1. الحقد والغل والبغض
الحقد والغل والبغض، هي من الأمراض النفسية الكامنة في الصدور، متداخلة من ناحية المعنى، تعد من أكثر الأمراض خطرا ً وأسوءها أثرا ً، وأوسعها ضررا ً على الإنسان والمجتمع، ذلك من عمق الضغينة وغليانها في صدر الإنسان، التي تبرز بهيئة انتقام دون التقيد بشرع أو قانون. وعلى هذا الأساس، فالإمام علي، ينهى عن اللجوء لمثل هذه التصرفات ويطالب الابتعاد عنها. فهو في الخطبة القاصعة، يطالب بإخماد الأحقاد الجاهلية التي لا زالت كامنة في النفوس: "فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية وأحقاد الجاهلية".
كما يطالب الإمام في الخطبة ذاتها، باجتناب الضغينة والتشاحن والتدابر، لأنها من الأسباب التي تؤدي إلى الضعف والانكسار، بقوله: "واجتنبوا كل أمر ٍ كسر فقرتهم وأوهن مُنتهم، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس ". فقرتهم: ظهورهم. منتهم: قوتهم. والضغينة هي الحقد الشديد. كما ينهى الإمام عن البغض، وهو الكره والمقت، لأنه يزيل كل خير وبركة، كما يقود إلى الشر:" ولا تباغضوا، فإنها الحالقة ". الحالقة: الآلة التي تستأصل الشعر. شبه الإمام (ع) التباغض بها، لأنه يستأصل من المرء دينه ويقوده لكل شر.
وبعد أن ذكرنا خطورة الحقد ومطالبة الإمام بتجنبه، سنبين آثار هذا المرض على العلاقات بين أفراد المجتمع وبين الحاكم والرعية. فالإمام يطالب بالاعتدال في العلاقة بين الأفراد وأن لا يكون ثمة مبالغة واندفاع كبير نحو مَن يحبه الإنسان ولا نحو إلى مَن يبغضه، فربما ينقلب كلٌ إلى ضده: "أحبب حبيبك هونا ً ما عسى أن يكون بغيضك يوما ً ما، وأبغض بغيضك هونا ً ما عسى أن يكون حبيبك يوما ً ما". ولكن، من المؤسف، أن نجد الكثير لا يلتزم بهذه الحكمة. كما ينتقد الإمام بشدة الاتفاق الجماعي على الغل، وهو الحقد الكامن، لأنه ينغل في الجوف بحرارة معنوية، هدفه الشر والكراهية: "قد اصطلحتم على الغلّ فيما بينكم ".
ومن القضايا الأساسية التي أشار لها الإمام في مجال الحقد، هي دخوله في العلاقة الثنائية بين الحاكم والرعية. فالحاكم عليه ترك الحقد واضمار الشر للرعية، كما عليه أن يُبعد عنه دواعي الانتقام والعداوات من الرعية، كما يذكر ذلك في عهده الرائع للأشتر لما ولّاه مصر: "اطلق عن الناس عُقدة كلّ حقد، واقطع عنك سبب كل وتر ". وتره: أدركه بمكروه، وكذلك الوتر: العداوة. والحقد، ينبغي أن يتجنبه الجميع، ولكنه، يُعد ذا أهمية بالغة لكبار القوم، وأصحاب المنازل العالية في المجتمع من حاكم وغيره.
2. الحســــــــد والتنافس
من العوامل التي تثير المشاعر السلبية من حقد وبغض وكراهية وعداوة وضغينة وانتقام ونحوها، هي غريزة الحسد والتنافس السلبي.
فعندما يحسد الإنسان، إنسانا ً آخر فهذا يعني كره نعمة الله عليه وتمنى زوالها وقد يسعى لإزالتها. هذه النعمة، قد تكون نعمة دين أم دنيا. فالحسد إذن، هو اضمار السوء ورجاء اندحار المحسود وإزالة خيراته، وانتقالها إلى الحاسد. نتيجة لذلك يصبح الحسد لون من العذاب والألم النفسي ينتاب الحاسد إذا اكتشف أن الآخر يملك ما ليس لديه، ماديا ً أو معنويا ً. فكل نجاح يحرزه المرء يثير الحسد، ويجرح الحاسد ويلمس فيه انتقاصا ً له، لذلك يسعى بشتى الوسائل لإخماده والقضاء عليه.
وعلى هذا الأساس، طالب الإمام بالكف عن الحسد، لأنه ينقص الإيمان، كما ذكر ذلك في خطبة له في عظة الناس وأمرهم بالتقوى:" ولا تحاسدوا، فإن الحسد يأكل الإيمان، كما تأكل النار الحطب". كذلك ما ورد في خطبة القاصعة: "فاتقوا الله ولا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا ً، ولا لفضله عندكم حُسادا ً". لا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا ً: لا تقابلوا النعم بالجحود فتنفر عنكم، فبالشكر تدوم النعم. ولا لفضله حسادا ً: أنكم تقومون بدور الحاسد في إزالة النعم. كما أن كثرة الحسد لها آثار وخيمة على صحة الحاسد، بسبب كثرة تفكيره وانشغاله بأمر المحسود، عندها يمرض ويهلك، هذا ما يبينه عليه السلام بقوله: " صحة الجسد من قلة الحسد ".
من أكثر القضايا التي تثير الحسد وما يتبعه من حقد، هي عندما يلاحظ الإنسان، أن إنسانا ً آخر قد تفوق عليه وامتاز بقدرات عقلية أو بدنية أو حصل على درجة رفيعة أو غيرها، عند ذلك يبدأ الحسد والحقد. وقد ضرب الإمام مثلاً لذلك هو ما حدث بين قابيل وهابيل. فقابيل الذي قتل أخاه هابيل حسدا ً وتكبرا ً على الإذعان بالحق، لم يكن يمتلك من مزايا كما يمتلكها أخيه، كما يقول الإمام في الخطبة القاصعة، وهو يحذر التشبّه بحالة قابيل: "ولا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه من غير فضل جعله الله فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، وقدحت الحمية في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكِبر الذي أعقبه الله به الندامة، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة".
وعلماء النفس، يبينون أن روح التحاسد والتناحر والبغضاء تنشأ عندما ينجح أحد الأفراد في تحقيق أهدافه، التي سوف تمنع الآخرين من تحقيق أهدافهم: "عندما تتداخل الأهداف التي يسعى الفرد إلى تحقيقها مع أهداف زملائه، لما كان نجاح الفرد في تحقيق أهدافه يؤدي إلى إعاقة الآخرين عن تحقيق أهدافهم فقد عزز ذلك روح التناحر والبغضاء بين الأفراد".
وللدكتور علي الوردي، مساهمات بليغة في هذا المجال، مجال التنافس السلبي الذي يؤدي إلى الحسد، فيقول: الرجل كالطفل يكره غيره حين يراه منافسا ً له على شيء. ولكنه يكتم كرهه إذا وجده مخالفا ً لمفاهيم جماعته أو مناقضا ً لتقاليدهم التي نشأ عليها. ولكنه لا يكاد يجد مجالا ً أو ثغرة يُظهر منها كرهه حتى ينكب على منافسه كما ينكب الطفل، ويأخذ عندئذ ٍ بالتصافع والتكالب. ويبين الدكتور علي الوردي أيضا ً، أن الحسد، ينتشر أيضا ً بقوة بين الذين يتظاهرون بالالتزام بالمبادئ: ومن يعش بين أولئك الذين يتظاهرون بالتقوى وخشية الله أو حب الحقيقة، ويختبر أحوالهم اختبارا ً دقيقا ً، يجدهم يتنازعون ويتنافسون ويتحاسدون كما يفعل سائر الناس. ولعلهم يفوقون الناس في ذلك من بعض النواحي. فلا يكاد أحدهم يرى قرينا ً له قد امتاز عليه بشيء من الفضل أو الجاه أو كثرة الأتباع حتى يضمر له الحقد ويأخذ بالتحري عن عثراته وهفواته.
إذن أي تفوق أو امتياز أو نجاح يحرزه شخصٌ ما يثير الحسد عند الآخرين الذين في قلوبهم مرض، وكل إخفاق لهذا الشخص يجابه بالشماته. والحقيقة، هذا ما نلاحظه في زماننا الراهن، كيف أن قسما ً من الناس يثيرون المشكلات والمعوقات بوجه من ينجح في أداء عمله وتزداد شعبيته، لأنهم لا يتحملون ذلك، فيحاربوه تحت ذرائع جاهزة، يقنعون بها أنفسهم فقط.
3. الغضب والحدة
الغضب، توتر انفعالي، هيجان، يحدث للإنسان، فيضطرب ذهنه وجسمه فجأة. إذن الغضب هو ثوران في النفس يحملها على الرغبة في البطش والانتقام. أما الحدة و الغيظ، فهي حالات نفسية وثيقة الصلة بشدة الغضب وسرعته. فالحدة هي ما يعتري الإنسان من نزق أو غضب. والغيض هو سورة الغضب أو أشده. وبالعودة إلى الغضب، فغضب عليه، بمعنى سخط عليه وأراد الانتقام منه، والغضب: استجابة لإنفعال، تتميز بالميل إلى الاعتداد. وارادة الانتقام مصدرها شعور المرء بضرر أو ألم أو احتقار أو إهانة ألحقها به غيره. فالغضب، هو حالة انفعالية، حالة سخط واحتجاج، ورفض وردود أفعال قوية وسريعة، يقوم بها الإنسان لمجابهة موقف معين، أو في حالة ظهور عائق في طريق تلبية احتياجاته. لذا فالغضب، هو الذي يحرك سلوك الفرد ويدفعه للقيام بعمل أو نشاط معين. ويتبين لنا، أن الغضب، كما ورد ذكره في نهج البلاغة، هو صنفان: أحدهما ضار، سلبي، مذموم غير مرغوب فيه، غير ضروري. والآخر، ضروري، محمود، إيجابي، ومرغوب فيه، وهو غضب لله تعالى.
الصنف الأول للغضب
الغضب من الصنف الأول، وما يتبعه من حدة وغيظ، هو الذي يحذر منه الإمام، ويطالب بالابتعاد عنه. فهو خُلق مذموم وطبع سيء، يُفقد الإنسان قدرته على التعقل والحكمة، ويُفسد أخلاق الإنسان، ويضر بالفرد وبسلوكه وبالمجتمع، ولا تتناسب مع الظروف المحيطة به، أو المواقف التي تقابله، ولا تستأهل كل هذا الغضب والطبع الحاد، والانفعال الزائد، التي تجعل من هذا الفرد كثير الخطأ، مضطرب الفكر، شديدا ً في المعاملة، قاسيا ً في المعاشرة، لا يعرف التسامح، فظا ً، غليظ القلب، عنيدا ً، عنيفا ً، منتقما ً، ولا يتسع صدره لأحد، كما تفلت أفعاله من عقال التفكير السليم. والإنسان من هذا الصنف يقوم في كل مرة بثورة من الغضب والصخب، عندما توجه إليه أية ملاحظة لاذعه، خاصة إذا مست كبرياءه، عند ذلك يُفرغ طاقة الغضب مباشرة وبسرعة. إن مثل هذه الانفعالات السلبية، تُعد مظهرا ً للاضطراب النفسي للفرد، تقتضي مواجهة ً وعلاجا ً. لذلك يصف الإمام، الحدة، وهي ما يحدث للإنسان عند الغضب، إنها شكل من أشكال الجنون وفقدان العقل فيقول:" الحدة ضرب من الجنون لأن صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مُستحكم". ويحذر الإمام، من الغضب وعواقبه الوخيمة، خاصة للولاة وقيادات الجيش، لأن الغضب يوجب الاضطراب في ميزان العقل، ويدفع النفس للانتقام، أيا ً كان طريقه، وهذا أكبر عون للمضل في إضلاله، هذا ما يقوله الإمام في كتاب له إلى الحارث الهمداني يعضه:" واحذر الغضب فإنه جند عظيم من جنود ابليس". وفي وصية الإمام لعبد الله بن العباس يقول أيضا ً:" وإياك والغضب فإنه طيرة من الشيطان". الطيّرة: الفأل الشؤم. والغضب يتفاءل به الشيطان من نيل مأربه من الغضبان.
علاج الغضب الضار
بما أن الغضب نارٌ في القلب تثير حرارة، فيميع الدم ويفور جسد الإنسان، لابد إذن من اللجوء إلى هيمنة العقل الراشد على غريزة الغضب، وكظم الغيظ، ومجاهدة النفس وتدريبها على التحلي بمكارم الأخلاق، كالصبر والحُلم وسعة الصدر، وتذكر المولى عز وجل، لأن ذلك يوقظ في القلب مشاعر الخوف والرهبة من الله تعالى. يوصي الإمام بكظم الغيظ وكتمه، في وصيته لولده الحسن:" وتجرع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة، ولا ألذ مغبة ". المغبة من كل شيء آخره. والمراد أن ذلك يكسبك خيرا ً كثيرا ً في دنياك وآخرتك. وكذلك في كتاب له للحارث الهمداني:" واكظم الغيظ واحلم عند الغضب". أي امسك نفسك عند الغضب، وتأن واسكن عند الغضب أو مكروه يصيبك. ولكن كظم الغيظ وكتم الغضب، يحتاج إلى سعة الصدر وقدرة على التحمل، لأنه يسبب الألم عند الإنسان الصالح، المؤمن، خاصة إذا واجهه موقفاً مخالفاً، غير سليم، كما حدث مع الإمام عند ذمه للقاعدين عن الجهاد:" قاتلكم الله ! لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا ً ". ولابد من الإشارة، هنا، إلى أن صفة الحلم والصبر وسعة الصدر، هي صفة الأنبياء والمرسلين والأولياء، فقد امتدح الله تعالى، على سبيل المثال، نبيه إبراهيم عليه السلام، بهذه الصفات بقوله:" إن إبراهيم لحليم " هود / 75. ولما طالب نبي الله إبراهيم عليه السلام من ربه أن يرزقه ولدا ً صالحا ً بشره الله باستجابته له ورزقه ولدا ً وصفه بالحلم وهو إسماعيل، قال تعالى:" رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم " الصافات / 100 – 101. ويصف الإمام، الحلم، وهو حبس النفس عند الغضب، وضبطها، والتأني، إنهما متشابهان، مصدرهما العزيمة، فيقول:" الحلم والأناة توأمان ينتجهما علو الهمة ". والمراد صاحب الهمة العالية يترفع عن السفه والطيش، والكلام بما يحط من قدره ويضع من مرتبته. ويشدد الإمام، على ولاته، بوجه خاص، على استعمال الحلم، وترك الغضب، كما يبين لهم قضية، غاية في الأهمية، وهي لا يجوز اتخاذ أي قرار، فيما يتصل بالعقوبة أو غيرها، والإنسان في حالة غضب. لأن الإنسان وهو في حالة غضب تختل موازينه ويفقد السيطرة على نفسه وتصرفاته. لذلك، يطالب الإمام، ولاته بتأخير اتخاذ القرار، حتى يسكن غضبهم وتهدأ نفوسهم بعد الإضطراب، فيملك حق الاختيار المناسب. كل ذلك يبينه الإمام في عهده للأشتر لما ولّاه مصر:" املك حميّة أنفِكَ، وسورة حدِّك، وسطوة يدك وغرب لسانك، واحترس من ذلك بكف البادرة، وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار ". أي املك نفسك عند الغضب. البادرة: ما يبدر من اللسان عند الغضب من سباب ونحوه. كذلك يبين الإمام، لواليه الأشتر النخعي، شروط اختيار قيادات الجند، من ضمنها الحلم، ومن لا يغضب، بقوله:" فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك.... وأفضلهم حِلما ً ممن يبطيء عن الغضب". أي لا يوقع العقوبة بمن يعتقد أنه يستحقها أثناء غضبه، لينتفي عنصر الانتقام في الموضوع من جهة، وليتسنى له بعد زوال غضبه أن ينظر في الموضوع برأيه الهادئ لا بعواطفه الثائرة ليكون حكمه سليما ً من الناحية العقلية.
ويتداخل مع الغضب والحدة ونحوهما، مفهوم " الجَزَع "، نقيض الصبر، وهو ضعف النفس عن احتمال ما ينزل بها من مكروه. أي فقدان الصبر على ما يصيب الإنسان. لذا فإن أمير المؤمنين، حذر من الجزع لأنه يعين الزمان على الإضرار بصاحبه، فيزيده شقاءً وبلاءً، فهو يقول:" والجزع من أعوان الزمان ".
ولابد لنا من التوقف قليلا ً، عند أهمية الحِلم والابتعاد عن الغضب، عند أصحاب المسؤولية والقيادات، التي ركز عليها الإمام في خطبه ووصاياه. وإذا كانت صفة الحلم، وكظم الغضب والغيظ مطلوبة من الجميع، إلا أنها لأصحاب القرار، الذين يتعاملون مع الناس، تصبح أكثر ضرورة وأهمية لعدة أسباب، منها:أولا ً، إن الناس ليسوا سواء في الأخلاق والصفات والاستجابه، فقد تظهر منهم تصرفات خاطئة أو ممارسات غير مرغوبة كالتسرع والإلحاح في مطالبهم، فإذا قابلهم المسؤول بالشدة والغضب والعنف، فقد ينفرون منه ويكرهونه ويتحينون الفرصة للتخلص منه. وثانيا ً، صبر المسؤول وحلمه على المتعاملين معه يكون سببا ً لتأليف قلوبهم ومنهجا ً حكيما ً في ردعهم عن أخطائهم، إذا وجدت. وثالثا ً، بالحلم والصبر تدوم المسؤولية ويتبوأ صاحبها مكانة عالية وزعامة بين قومه، فقد جبلت النفوس، عادة، على حب من يصبر عليها.
الصنف الثاني للغضب
كان الغضب الذي ذكرناه، هو الصنف الأول، الضار، أما الصنف الثاني، فهو الضروري، المطلوب. وهو يعني الاحتجاج ورفض موقف معين خاطئ، لأنه لا يمكن السكوت والتغطية عن انتهاك الحق بالصواب، وانتهاك حرمات الله تعالى، ويراد به وجه الله تعالى، والانتصار لدينه. فلابد للإنسان أن ينفعل ويغضب، وإلا أصبح هذا الإنسان فاقدا ً للشعور والإحساس. وقد بين الإمام علي (ع) هذا الغضب المطلوب، وذلك عندما تنقض العهود، مثلا ً، من خطبة له في شرعة الإسلام:" وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون ". عهود الله: أوامره وتعاليمه ونواهيه. ومنقوضة: متروكة. ومدح الإمام، قوما ً في مصر لأنهم غضبوا إلى الله تعالى، أي احتجوا على عصيانه، وذلك بقوله:" إلى القوم الذين غضبوا لله حين عُصي في أرضه وذهب بحقه ". ثم يوضح لنا الإمام، أن الغضب الضروري النافع، يكون هدفه الإخلاص في العمل وقصد القربة إلى الله تعالى، فإن ذلك يعطي الإنسان قوة وعزيمة، كما في قوله في القصار من كلماته:" من أحدّ سنان الغضب لله قوي على قتل أشداء الباطل ". أحدّ: أي شحذ. وأسنان: نصل الرمح. أي من اشتد غضبه لله اقتدر على قهر أهل الباطل وإن كانوا أشداء. وكذلك يقول الإمام: " ومن شنيء الفاسقين وغضِب لله، غضِب الله له وأرضاه يوم القيامة ". الشنآن: البغض. ويتضح الغضب الضروري، الإيجابي، عند مخاطبة الإمام لأبي ذر عندما نفوه خارج المدينة: " يا أبا ذر إنك غضبت لله فارج من غضبت له ". بمعنى أنه احتج وغضب وشكى لله. إن كلام الإمام عن الغضب الإيجابي، يؤكده، الآن علماء النفس والأطباء، الذين يعتقدون أن الإنسان المجرد عمليا ً من ردود الفعل العاطفية، يعد مريضا ً من الناحية النفسية. فالانفعالات حاجة متأصلة ومتنامية لدى الفرد.
علاج الأمراض الاجتماعية
إن الأمراض الاجتماعية التي ذكرناها، هي نقائص أخلاقية وشرور، تسمى أيضا ً "أمراض القلوب"، وهي ليست أمراض بدنية تعتري القلب، تهدد سلامته ومن ثم حياة صاحبه، لكنها أمراض تجسد فساد الإنسان من الناحية النفسية والسلوكية، وقد وصفها الإمام عليه السلام أنها أعلى درجة من درجات البلاء والمصيبة التي تصيب الإنسان بعد الفقر ومرض البدن. كما أن أمير المؤمنين، وضع علاجا ً لهذه الأمراض، بالتقوى، أي تقوى القلب، بطاعة الله والابتعاد عن محارمه. وهذه التقوى، عندما يصل لها الإنسان يكون في قمة نِعم الله. فهي أعلى درجة من درجات هذه النعم، بعد سعة المال، وصحة البدن، لذا يقول عليه السلام في القصار من كلماته: "ألا وإن من البلاء الفاقة، وأشد من الفاقة، مرض البدن، وأشد من مرض البدن، مرض القلب. ألا وإن من النِعم سعة المال، فأفضل من سعة المال، صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب".
اضف تعليق