كان جنوب العراق معروفا فيما مضى بالأهوار الغنية التي جرى تجفيفها منذ عقود في كارثة بيئية نجم عنها تدمير نظام بيئي معقد وهلاك العديد من الكائنات التي كانت تعيش فيها. ويمكن لغرس أشجار المانجروف في السهول الطينية الممتدة، جنوبي المكان الذي كانت فيه الأهوار ذات يوم، حماية قاطني...
لم تكن أشجار المنغروف معروفة في العراق قبل أن تشرع محافظة البصرة المطلة على الخليج باستخدامها في تشجير أجزاء من السواحل العراقية بالاعتماد على استراتيجية تتوخى غرس آلاف الشتلات على مدى خمس سنوات في سبيل تخفيف وطأة تأثيرات التغير المناخي على المستوى المحلي، وتحسين بيئة المناطق الساحلية التي طالما كانت جرداء ومقفرة.
والمنغروف عبارة عن شجيرات شاطئية تنمو عند الحدود الفاصلة بين البحر واليابسة في المناطق المدارية والحارة، وتتميز بمقاومتها للظروف المناخية القاسية التي تعجز عن تحملها معظم النباتات الأخرى. وامتداداً لأهميته الإيكولوجية يسهم المانغروف في تشكيل نظام حيوي متكامل من حيث توفيره موائل للطيور والأسماك والقشريات وبعض الحيوانات البرمائية والبرية، كما أنه يثبت تربة الشواطئ ويحميها من التآكل والتعرية.
وبدأت البصرة قبل أعوام قليلة تجارب لاختبار إمكان زراعة المانغروف، ومنها ما قامت به الشركة العامة لموانئ العراق خلال عام 2019 عندما زرعت 400 شجرة قرب ميناء خور الزبير.
أربعة ملايين شجرة
بينما يزرع العراقي أيمن الرباعي شتلات أشجار المنغروف (القرم) في سهول طينية مترامية الأطراف بجنوب العراق، يُظهر الدخان الأسود المتصاعد في الأفق خلفه الضرر البيئي الذي يجتهد الرجل لإصلاحه.
ويعمل الرباعي، وهو مهندس زراعي، في مشروع بدأته هيئات تابعة للحكومة العراقية ووكالة تابعة للأمم المتحدة لزراعة ما يصل إلى أربعة ملايين شجرة منغروف بمنطقة السهول الطينية في خور الزبير التي تقع على مقربة من حقول نفط كبيرة.
وبينما يميل ليزرع شتلة وينتقل لزراعة أخرى يغطي الطين حذاءه حتى الكاحل. ويأمل الرباعي أن يكون ما يقوم به جزء مما سيصبح غابة أشجار منغروف تحمي الساحل وتؤوي كائنات معرضة للخطر وتكافح تغير المناخ.
وقال إن "نبات المنغروف يحارب التغير المناخي اللي هو الموضوع الشائع هسا حاليا"، مشيرا إلى قدرة أشجار المنغروف على امتصاص وتخزين ثاني أكسيد الكربون.
وبحسب البنك الدولي، زادت عن الضعف انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العراق خلال العقد الماضي مما يجعلها أحد أسوأ الملوثات في المنطقة عند قياسها بحجم اقتصاد البلاد.
والسهول الطينية مترامية الأطراف جنوب البصرة عبارة عن منظر طبيعي لمنطقة يغطيها ماء وملح وطين وسماء ضبابية تمر وسطها قنوات يتنقل عبرها الرباعي وفريقه بقوارب.
ويتصاعد الدخان على مرمى البصر من مصنع للبتروكيماويات قرب حقل الزبير النفطي، على بعد حوالي 20 كيلومترا، وهو جزء من قطاع الطاقة الهائل الذي يوفر الجزء الأكبر من دخل العراق، كما أنه الصناعة الرئيسية والملوثة في منطقة البصرة.
وكان جنوب العراق معروفا فيما مضى بالأهوار الغنية التي جرى تجفيفها منذ عقود في كارثة بيئية نجم عنها تدمير نظام بيئي معقد وهلاك العديد من الكائنات التي كانت تعيش فيها.
ويمكن لغرس أشجار المانجروف في السهول الطينية الممتدة، جنوبي المكان الذي كانت فيه الأهوار ذات يوم، حماية قاطني المناطق الساحلية من العواصف والفيضانات وإتاحة موطن جديد للكائنات المهددة دون استخدام أي من المياه العذبة النادرة للري في العراق.
واستُلهم المخطط من مشاريع ناجحة لإصلاح غابات المانجروف في الكويت المجاورة وفي الإمارات على الطرف الآخر من الخليج.
ويقول الرباعي إن "نباتات المانجروف يمكن أن تقاوم الظروف القاسية اللي إحنا جايين نمر بيها، ممكن نستعيد الغطاء النباتي بطريقة مبتكرة، ما نعتمد على كميات المياه اللي بدها تدخل، مياه السقي، هذا أدى إلى استخدام نباتات ممكن تعيش على السواحل". وتزدهر أشجار المانجروف في الظروف الحارة والموحلة والمالحة، وهي ظروف غير مناسبة لمعظم النباتات الأخرى.
وقال أحمد البعاج، من برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، الذي يعمل في المشروع مع حكومة البصرة المحلية وجامعة المدينة ووزارة البيئة العراقية، إن الأشجار الجديدة تأتي من مشتل تنمو فيه 12 ألف شتلة.
درع وقائي
تسخن الشمس الحارقة البصرة الصاخبة بالحياة. خارج المدينة، وفي هدوء منطقة التفرعات الشجرية، يفك حكيم شبكة صيده بمساعدة شقيقه عبد الحسن
نشأ الرجلان، وهما في الخمسينيات من عمرهما، حول أهوار جنوب العراق، وهو نظام بيئي نابض بالحياة لكنه الآن من الأراضي الرطبة التي تعاني من الآثار السلبية لأزمة المناخ وسنوات من الصراع.
يقول حكيم: "لم أضطر أبدًا إلى ابتلاع حبة دواء واحدة طوال حياتي،" متحدثًا معنا عن وقت كانت فيه الأهوار ملاذًا من الهواء والماء النقي ومصدرًا موثوقًا للغذاء والدخل.
في عام 2003، اتخذ حكيم القرار الصعب بمغادرة الأهوار والانتقال إلى منطقة التفرعات الشجرية في البصرة لمواصلة القيام بشغفه: صيد الأسماك.
لكنه يجد الآن صعوبة في صيد ما يكفي لإعالة أسرته ويضطر إلى بيع القليل الذي يصطاده بأسعار منخفضة قد يتحملها الناس.
يعتبر العراق، الذي يعاني من تفاقم مواسم الجفاف، من بين البلدان الخمسة الأولى الأكثر تضرراً من أزمة المناخ يحتل المرتبة 39 من حيث الإجهاد المائي على مستوى العالم. يواجه حوض نهري دجلة والفرات - وهو نظام نهري مشترك بين تركيا وسوريا والعراق وإيران والكويت - فترات جفاف طويلة، تفاقمت بسبب تحويلات المياه وبناء السدود
بحلول نهاية العام الماضي، أجبر الجفاف 68 ألف شخص - بمن فيهم حكيم وعائلته المكونة من ثمانية أفراد - على ترك منازلهم في وسط وجنوب العراق.
بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وجفاف مجاري المياه والملوحة، أثرت ندرة الأسماك في الوصول إلى الغذاء في العراق، حتى بالنسبة للعائلات مثل عائلة الحكيم التي تعيش على البحر. البصرة، وهي منطقة معروفة بحبها للأسماك، شعرت بالتأثير. يقول حكيم، وهو يحدق في المياه: "الصيد هنا في مرحلة ما سيكون مهنة من الماضي".
تعتبر أشجار المانغروف مثالية لمثل هذه البيئة. فهي لا تتأثر بالمياه المالحة وتلعب دورًا مهمًا من خلال العمل كموائل لمجموعة واسعة من أنواع الأسماك. كما أنها تعمل كدرع وقائي للمحاصيل والمستوطنات البشرية ضد القوى المدمرة لعرام العواصف والتعرية. بالإضافة إلى ذلك، تعمل هذه النظم البيئية كمرشحات طبيعية تزيل بفعالية الملوثات التي يمكن أن تلوث مصادر الغذاء الحيوية.
يقول حكيم: "إن زراعة أشجار المانغروف تعني بيئة أفضل ومناخًا أفضل وحياة أفضل.
حدد برنامج الأغذية العالمي وشركاؤه هدفًا أوليًا لزراعة مليون عينة من أشجار المانغروف لكل دورة إنتاج، بما يتماشى مع التزام حكومة العراق بزراعة 5 ملايين شجرة بحلول عام 2028 استجابة لأزمة المناخ كما أعلن في مؤتمر المناخ في العراق.
من خلال بناء مشتل المانغروف والعمل مع الصيادين المحليين مثل حكيم وعائلته، يقوم برنامج الأغذية العالمي بتمكينهم ليصبحوا أوصياء على بيئتهم ويعملوا من أجل مستقبل مستدام للأمن الغذائي.
كما يدعم برنامج الأغذية العالمي الصيادين بدورات تدريبية تكون بمثابة منصّة لاكتساب تقنيات جديدة وتحسين الممارسات الحالية، واكتساب فهم أعمق لأساليب الصيد المستدامة. وهي تشمل صيدًا انتقائيًا وفقًا للموسم وتقليل النفايات من خلال تقنيات مناسبة لتداول الأسماك وتخزينها.
مع تجذر البذور الأولى لأشجار المانغروف يقول حكيم إنه يتصور نظامًا بيئيًا مزدهرًا يجتذب وفرة من الأسماك والروبيان، مما يعزز دخله ويحسن نوعية الحياة لعائلته ومجتمعه.
أبناء حكيم ليسوا مجرد صيادين. هم أيضًا أوصياء التقاليد المتوارثة عبر الأجيال. "أحب الصيد لأنه يذكرني بمن أنا ويوجهني إلى ما يمكن أن يصبح عليه أبنائي. عندما تنظر إلى البحر، لا حدود للاحتمالات."
ما سبب أهمية المنغروف؟
تتميز غابات المانغروف بأنها نظم إيكولوجية نادرة ومذهلة وخصبة وهي تعيش على الحدود بين اليابسة والبحر. وتسهم هذه النظم الإيكولوجية الاستثنائية في رفاه المجتمعات المحلية الساحلية في العالم وفي أمنها الغذائي وحمايتها. وتدعم وجود تنوع بيولوجي ثري، كما توفر منطقة تفريخ هامة للأسماك والقشريات. وتعمل غابات المانغروف كنظام دفاعي ساحلي طبيعي في وجه هبوب العواصف وأمواج التسونامي وارتفاع منسوب مياه البحر. وتعتبر تربتها بالوعات كربون شديدة الفعالية حيث تثبِّت كميات كبيرة من الكربون.
ولكن تتراجع المساحات التي تغطيها غابات المانغروف بنسبة تفوق بمقدار ثلاث إلى خمس مرات نسبة التراجع العام لمساحات الغابات العالمية، ويقترن هذا التراجع بحدوث أضرار كبرى من النواحي البيئية والاجتماعية والاقتصادية. وتشير التقديرات الحالية إلى أنَّ المساحات التي تغطيها غابات المانغروف قد انحسرت بنسبة النصف خلال الأربعين عاماً الماضية.
إن سحر أشجار المنغروف متعدد الأبعاد فهي تمثل مكانًا لتكاثر الأسماك، وتؤدي دور الحواجز بوجه العواصف، وتوفر مصادر الخشب للبناء والطهي. وإن الشبكة الملفتة لجذورها تعمل أيضًا كمرشح للرواسب، فتنظف المجاري المائية فيما تعمل أيضًا على تثبيت التربة.
ويشرح منسق المشاريع لاتفاقية برنامج الأمم المتحدة للبيئة: إذا لم نقم اليوم بإعادة تشجير غابات المنغروف، ستؤدي الأمطار والأنشطة المختلفة إلى تآكل قواعدها. وإن ذهبت هذه القواعد، أصبحت هذه التربة عقيمة، بحيث لا يمكن أن ينمو أي شيء فيها.
كما تؤدي أشجار المنغروف دورًا محوريًا في مكافحة تغير المناخ؛ حيث أنّ تربتها تعمل كبالوعات فعّالة للكربون تحتجز كميات ضخمة من ثاني أكسيد الكربون فتمنع دخوله إلى الغلاف الجوي.
ويعني هذا، بالإضافة إلى كونها موئلًا لعدد لا يحصى من الأنواع، أن غابات المنغروف تساعد العديد من الكائنات الحية في البقاء على قيد الحياة. وإنّ الجذور السميكة لهذه الغابات المالحة توفّر السلامة للمخلوقات المائية وللمجتمعات الساحلية على حدٍّ سواء.
ويمكن أن تعيش أشجار المنغروف من خلال بناء نفسها عموديا عندما يظل ارتفاع مستوى سطح البحر أقل من 5 ملم في السنة.
ويبلغ إجمالي مساحة غابات المنغروف في العالم ما يزيد على 137 مليون كيلومتر مربع، تغطي 118 دولة ومنطقة.
وتتحمل أشجار المنغروف الملوحة، وتتكيف مع الحياة في الظروف الساحلية القاسية. وتحتوي على نظام ترشيح ونظام جذري معقد للتعامل مع غمر المياه المالحة وعمل الأمواج. وتتكيف مع ظروف الأكسجين المنخفض في الطين المغمور بالمياه.
ومع الجذور التي ترتفع من تحت الطين، تنمو حوامل المنغروف في عملية تسمى التراكم الرأسي.
وتأتي تجربة زراعة المنغروف في مرحلة تواجه فيها البصرة والمحافظات العراقية الجنوبية الأخرى تأثيرات متصاعدة لتفاقم التلوث البيئي وازدياد حدة التغيرات المناخية، ويمكن تحسس تلك التأثيرات بوضوح في ضوء ارتفاع درجات الحرارة فوق المعدلات المعتادة، وتمدد الصيف وقصر الشتاء وجفاف مساحات شاسعة من مناطق الأهوار، واتساع نطاق الأراضي الخصبة التي زحفت عليها كثبان رملية ولفظها التصحر، فضلاً عن انحسار كميات الأمطار، وازدياد العواصف الترابية.
اضف تعليق