غالبا ما توصف البلدان المعتمدة على النفط عموما، بأنها بلدان ذات كفاءة واطئة في إدارة الموارد العامة، مع الإسراف في الإنفاق قليل الجدوى، وذات بيئة من الثقافة الريعية تعرقل الإصلاح وتسمح بنفوذ المصالح غير المشروعة، والتكاسل في تنمية الموارد من غير النفط الخام. ومنذ ثمانينات القرن الماضي، تحددت بنية الاقتصاد العراقي وتبلورت بتزايد اعتماده على قطاع النفط الخام، والتوسع غير المستدام لقطاع الخدمات غير المنتجة وبخاصة الجهاز العسكري، وإهمال القطاعات المنتجة كالزراعة والصناعة على نحو متواصل، وانهيار الاستثمار الإنتاجي في النشاطات الاقتصادية غير العسكرية، وتدهور في مساهمة القطاع الخاص في الناتج، كل هذه الأمور أدت إلى تعميق السمات الريعية للاقتصاد العراقي.
ولم تقدم التجربة الاقتصادية في العراق، دليلا على مسار مختلف، لحد الآن، في إدارة المال العام أو مقومات نهضة صناعية –زراعية- عمرانية طال انتظارها. ولا شك أن هبوط سعر النفط إلى قرابة 50 دولارا للبرميل، وربما دون ذلك، هو صدمة لاقتصاد العراق ونتائجها النهائية متعلقة في تدابير التكيف مع مورد نفطي منخفض. ولكنها في الوقت نفسه - أي تلك الصدمة - تقدم فرصة للمراجعة الشاملة أضعناها عام 2009 عندما هوى سعر النفط إلى 30 دولارا للبرميل.
ويعتمد العراق على النفط بشكل كبير حتى عند مقارنته مع غيره من البلدان النفطية، ويبين الشكل أدناه([1]) هيمنة قطاع النفط على الصادرات في العراق مقارنة بدول نفطية أخرى، إذ يعتمد الاقتصاد العراقي بشدة على مورد وحيد وتشكل صادراته من النفط الخام قرابة (97%) من إجمالي الصادرات، وهي بذلك تفوق نسب هذا النوع من الصادرات في أي بلد آخر في المنطقة. ومن المتوقع أن يزداد هذا النوع من الاختلال مع زيادة اختلال الأهمية النسبية للقطاعات الاقتصادية في الناتج المحلي الإجمالي؛ لأن جولات التراخيص سوف تؤدي إلى تنامي إنتاج النفط بمعدل أسرع بكثير من تنامي الإنتاج في القطاعات الأخرى. وهذا اختلال لا يمكن التخلص منه في الأمد القصير والمتوسط؛ لأن العراق لا يمتلك مصادر لتمويل الإعمار والتنمية في القطاعات الأخرى إلا من خلال زيادة إنتاج وتصدير النفط وهذا بالتأكيد سوف يعمق الاختلالات الهيكلية في الأمد القصير.
إن صدمة هبوط الإيرادات النفطية كانت مفاجئة لمعظم البلدان النفطية، وبالخصوص العراق؛ كونه يخوض حربا داخلية مع تنظيم "داعش"، فضلا على ملفات إعادة إعمار المناطق التي شهدت معارك، ومد يد العون للمهجرين، وتوفير مبالغ وسلع وخدمات تسهم في التخفيف من معاناتهم، كل ذلك يتطلب تمويلا مفتوحا لا خطة تقشفية. حيث يواجه العراق "صدمة مزدوجة" تتمثل في هجمات تنظيم "داعش"، والهبوط الذي تشهده أسعار النفط على مستوى العالم.
وعلى الرغم من تقهقر جماعات "داعش" عقب الانتصارات التي حققها الحشد الشعبي والضربات الجوية مؤخرا، يبدو أن الصراع سيظل مستمرا لأمد غير قصير. ولهذه الهجمات تأثير بالغ على الاقتصاد غير النفطي من خلال تدمير البنية التحتية والأصول، وتعطيل حركة التجارة، وإعاقة الحصول على الوقود والكهرباء، وإحداث تراجع في ثقة المستثمرين. وجاء انهيار أسعار النفط العالمية ليفاقم التوترات الناجمة عن هجمات تنظيم "داعش"، وينشئ تعقيدات أمام الجهود المبذولة للتعامل معها.
فنظرا لإيرادات تصدير النفط التي تشكل أكثر من 95% من مجموع الإيرادات الحكومية، يظل العراق معرضاً بشكل دائم لأثر تقلبات أسعار النفط. وقد بدأ تراجع أسعار النفط يخفِّض الإيرادات الحكومية بالفعل (ويشكل عبئا على الاقتصاد من خلال تراجع الإنفاق الحكومي)، بينما يتزايد الإنفاق على المتطلبات الأمنية والإنسانية الناشئة عن التوتر الأمني في البلد.
مع ذلك، فإن مثل هذه الصدمة المالية قد تعيد التنظيم المالي للموازنة وتشدد من رقابة الدولة على المال العام ومكافحة الفساد فضلا عن العمل على تقليص النفقات غير الضرورية التي أدمنت عليها الحكومة بسبب الريع النفطي. ويتطلب الوضع الراهن قيام الحكومة بعدة إجراءات، لعل أبرزها: ترشيق الإنفاق الحكومي، وإصلاح النظام الضريبي من خلال سن عدد من القوانين التي تسهم في توسيع الأوعية الضريبية وتحديد أسعار جديدة للضرائب تنسجم والمقدرة التكليفية للمواطن مع الأخذ بنظر الاعتبار عدم إثقال كاهل الطبقات الفقيرة والمتوسطة، والعمل على إعادة هيكلة الصناعات المملوكة للدولة والتحول التدريجي نحو القطاع الخاص، إذ تكشف الموازنات العامة السابقة أن دعم وتمويل هذه الصناعات لم يحسن من أدائها الاقتصادي فما زالت أغلب المشروعات العامة غارقة في الخسائر. أما بالنسبة لتفعيل القطاعات غير النفطية، فهذا يتطلب خطة لتنويع مصادر الإيرادات عبر تحفيز القطاعات غير النفطية في البلد.
اضف تعليق