عندما هتف الامام علي بن أبي طالب، عليه السلام، بعد يومين من توليه الحكم: "... فان في العدل سِعة، فمن ضاق عليه العدل فان الجور عليه أضيق"، كانت قيمة العدل بعد لم تختمر في النفوس لترتقي الى مستوى الإيمان وتتحول الى ممارسة عملية، لذا كان قرار الامام باسترجاع كل ما وزعه عثمان من أموال منقولة وغير منقولة الى بيت المال، بمنزلة التأسيس للنظام الصحيح في المجالات كافة، ومنها الجانب الاقتصادي، بيد إن وقتنا الحاضر يشهد فهماً كاملاً لهذه القيمة الى حد التقمّص والإدعاء، دون الإيمان العميق والمطلوب، لذا قلمّا نجد حاكماً لا يدّعي تطبيق العدالة في بلادنا الاسلامية.
فهم مغلوط يسبب الظلم
ذات مرة كنا مع أحد الاصدقاء في سيارة على الطريق العام، وكان الشارع مليئاً بالأتربة والرمال – كما هي معظم شوارعنا المعبدة- بينما كان صهريج ماء تابع للبلدية يقوم برش الماء في محاولة للحؤول دون تحول هذه الأتربة الى غبار في الاجواء، بيد أن المشكلة الجديدة أن الماء والتراب أنتج الوحل الذي سيتطاير على السيارات والمواطنين هنا وهناك، فقال بظرافة: "نسمع بالنظافة، فهل رأيناها بأعيننا..."؟!
نسمع بـ "الخصخصة" المتداولة في اقتصاديات الدول المتقدمة على أنها من سبل التنمية والتقدم بخطوات أسرع، عندما يقل الاعتماد على التمويل الحكومي والتخلّص من آثار الازمات الاقتصادية والسياسية وغيرها مما يطرأ على بعض البلاد، بيد أننا في العراق –مثلاً كما في سائر البلاد النامية- لا يمكن تطبيق فكرة ذات أبعاد اقتصادية بحتة على قطاع التعليم الذي تفوق أبعاده؛ الاقتصاد ليشمل السياسة والامن ومختلف جوانب الحياة.
وبات معروفاً أن الخصخصة لم تظهر على سطح الاحداث، إلا بعد تخبط الحكومات في سياساتها الفاشلة وعدم قدرتها على المضي في مشاريع تنموية وانتاجية، بسبب سوء التخطيط او المنهج الخاطئ، فتكون الثروة في مشاريع تصبّ عند كرسي الحكم وتقويته، مثل التسليح لمنافسة الجوار والدول القوية الاخرى، أو الامن والمخابرات لمراقبة التحركات المعارضة في الداخل، فالخشبة الوحيدة للخلاص – بظنهم- تكون بالخصخصة، ففسحوا المجال أمام تملّك القطاع الخاص – التجار واصحاب الرساميل الضخمة- للمصانع والبنوك والمطارات والمنشآت الانتاجية والخدمية، أما التبرير الذي يسوقونه فهو الحؤول دون تنعّم الغني مع الفقير بسياسة الدعم الحكومي للسلع والمنتجات والخدمات، ولتحقيق العدل؛ على الجميع ان يعتمد على نفسه...!
وقد جربت بعض الدول "النامية" هذه الفكرة، في قطاعات مختلفة منها التعليم فجاءت النتيجة ليست بأقل سوءاً مما حصل للقطاعات الاخرى، بل وأكثر، لأن الضغوط التي تحملّها المواطن لتغطية تكاليف التعليم، تسبب في مشاكل آنية وإسقاطات سلبية على المدى البعيد، لأن التعليم والحصول على الشهادة الجامعية والصفات العلمية والمهن المرموقة لن يتاح إلا للشريحة الغنية والمتوسطة، أما الفقيرة فان ابنائها لن يكون قدرهم سوى عمّال و موظفين بعقود عمل محددة.
وفي العراق تظهر يوماً بعد آخر ملامح خصخصة التعليم عندما يتفاجأ الناس في هذه السنة الدراسية بتأخر الكتب المدرسية لاكثر من شهر، مع إهمال غير مسبوق من قبل بعض الكوادر التدريسية للمطابقة بين المنهج والفترة الزمنية المفترضة حتى موعد الامتحانات؛ هذا في المراحل الابتدائية، أما المراحل الاعدادية التي تتسم بالمصيرية؛ فالملاحظ في بعض الاحيان نوعاً من التسيّب في التدريس، لأن عدداً لا بأس من الطلبة في المدارس الحكومية يقضون ساعات طويلة في بيوت المدرسين الخصوصيين، وهذا ما صرّح به أحد الاساتذة في مرحلة الاعدادية في درس الكيمياء، في معرض تبريره بعدم الحاجة الى الشرح الزائد!
لم يكن الشارع العام في العراق بحاجة الى مزيد من الأدلة على نوايا الحكومة بسحب يدها تدريجياً من التعليم، كما فعلت بالنسبة لمفردات البطاقة التموينية (الغذائية)، والنقل العام والاتصالات، بيد أن تطبيق نظام كهذا على بلد مثل العراق، يسفر عن نتائج غير محمودة على الصعيد الاجتماعي والسياسي ايضاً، لان الخصخصة الناجحة تكون في بلاد نجح فيها الاقتصاد بتوفير دخل محترم للفرد والحفاظ على مستوى جيد من القدرة الشرائية من خلال مسيرة نمو معتدلة والسيطرة على معدلات التضخم وغيرها من الاجراءات الاقتصادية المشددة، بينما في العراق، وحتى بلدان أخرى، فان الفرد هو الذي يصنع اقتصاده بنفسه! فهو الذي يستورد ويبيع ويبني ويستثمر في الداخل او الخارج ويصنع له ثروة مع حياة مرفهة، بينما تطارده الدولة في أمر الضريبة وحسب، وهي التي يشوبها الفساد الاداري – في كثير من الاحيان -.
مع ذلك لا يعني هذا أن التعليم في البلاد الغربية والمتقدمة، متروكة للخصخصة كما يفكر البعض على غرار القطاعات الانتاجية والصحية والخدمية، إنما هنالك تخصيصات كبيرة من الميزانية الحكومية، فحسب بعض الاحصائيات فان التمويل الحكومي للتعليم في كندا يصل الى حوالي 78بالمئة، وفي اميركا حوالي 70بالمئة، وفي استراليا واليابان حوالي 76بالمئة، وفي بريطانيا حوالي 85بالمئة، وفي دول مثل الدنمارك وبلجيكا وايطاليا وهولندا وفرنسا يرتفع التمويل الحكومي ليتجاوز 90بالمئة، بينما دول مثل البرتغال وفلندا والسويد والنمسا يتجاوز هذا التمويل ليصل الى نسبة 95بالمئة.
علماً ان هذه الامثلة تشير الى رؤية مستقبلية لقطاع التعليم كونه عماد المشاريع التنموية الضخمة وضمانة التطور والتقدم الاقتصادي، الى جانب التقدم في الجانب السياسي وحتى الاجتماعي والثقافي، بينما القضية في بلادنا لها صلة بالقيم الانسانية الكبيرة مثل العدل، لوجود التفاوت الطبقي الفظيع والفشل الافظع في سياسات الحكام، مما يدفع بهؤلاء الحكام نحو ارتكاب الجور والظلم، دونما إرادة منهم – ربما- فيما هم يدّعون تطبيق العدالة لكسب المزيد من الشرعية لوجودهم في المناصب الحكومية العليا.
وقد كثر الحديث منذ فترة طويلة في العراق عن انسياق شريحة واسعة من المجتمع نحو توفير المال اللازم لحجز مقعد لابنائها عند المدرسين الخصوصيين حتى وإن اقتضى الأمر للاقتراض او الاستغناء عن أثاث البيت او بيع السيارة وغير ذلك، الى جانب تأثيرات نفسية عميقة على الاجواء العائلية، كل ذلك، من أجل التعويض عن القصور في المدارس الحكومية، ثم جاء تصريح وزير التربية العراقي مؤخراً ليدق مسماراً آخراً في نعش التعليم، عندما يبرر عدم وصول الكتب الدراسية الى التلاميذ بعدم وجود تخصيصات مالية تنقل الكتب من المخازن الى المحافظات...!.
التلاميذ بانتظار الحل الوسط
كما هو الحال في كثير من التجارب "التخصيصية" في المشاريع الاقتصادية التي نجح فيها التكامل بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص في إدارة الكثير من المشاريع والاعمال مع نتائج ايجابية مفرحة، فان قطاع التعليم ايضاً بحاجة الى تجربة من هذا النوع، بأن تركز الدولة على الإشراف المنهجي والادارة، وتترك للتمويل الخاص نسبة لا تنعكس سلباً على ابناء الشرائح الاجتماعية المختلفة وتحقق العدالة في توفير فرص الدراسة للجميع، بما يقربنا من المعادلة الذهبية التي وضعها النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: "لا تَظلمون ولا تُظلمون".
وقد طرح العديد من الخبراء والمتابعين افكاراً جديرة بالمناقشة، منها؛ تأسيس "صندوق وطني للتعليم" تقدم منح دراسية تساعد الطالب على تغطية نفقات دراسته في المدارس حكومية أو الأهلية، على أن يكون هنالك تحديد طريقة التمويل وآلية تشغيل المدارس وتحديد نفقات الطالب وغيرها، كما هنالك فكرة مجربة في بريطانيا وكندا واميركا، بأن يسمح بتأسيس مدارس من قبل تربويين متقاعدين، تموّل من قبل السلطات المحلية في المحافظات، كأن تشرف عليها مجالس المحافظات في العراق وبشكل مباشر، لتتخلص من الروتين والفساد الاداري ومشاكل الوزارة في بغداد.
وفي كل الاحوال، لابد من وجود صيغة توافقية تخرج الطالب في العراق وايضاً عوائلهم، من أزمتهم الخانقة بين التعليم الأهلي المكلف وبين التعليم الحكومي القاصر، حتى يطمئن الجميع الى أن العدالة - في هذا الجانب على الاقل- تمكنهم من الاسهام في صنع المستقبل لهم ولبلادهم ولشعبهم.
اضف تعليق