إن الفضول المعرفي والعلمي هو المعلم الأول للإنسان. وتُعد الأسئلة من أفضل الأدوات لإثارةِ مستوياتٍ مرتفعةٍ من الفضول العلمي، حيث تسمح الأسئلةُ أيضًا بإرشاد الطلبة إلى الاستنتاجات التي يريدها، وتعويدهم على التفكير العميق، وتُعزز التفكير النقدي ومهارات حل المشكلات وحب التعلُّم...

نُولَد فيُولَد معنا فضولُنا، وقد يحدث ذلك منذ اللحظة الأولى، وتدور برؤوسنا الصغيرة أسئلة تبحث عن إجابات منطقية تُشبع فضولنا مرةً تلو الأخرى. فلا مراء أن أول وأبسط تفاعل نكتشفه في العقل البشري وكيميائه هو الفضول. 

وكما أن هناك الفضول الإيجابي الذي يدفعنا لتعلُّم شيء معين، فهناك أيضًا الفضول السلبي الذي لا طائل من ورائه سوى النبش في حياة الآخرين، والبحث عمَّا لا يعنينا.  

فضول الأسئلة، ومعرفة أسرار الآخرين، ومتابعتهم -في السر والعلن-، هو الأبرز في السلوك الإنساني منذ قديم الأزل. وقيل: إنه الدافع الرئيس الذي يُحرك معظم أفعالنا، وسبب ظهور أعظم اكتشافاتنا العلمية والفلسفية. وقيل أيضًا: إنه سلاحٌ ذو حديْن: أحيانًا يظهر بوصفه فضيلة، وأحيانًا ينقلب إلى رذيلة ويتحول إلى (شهوة عقل) كما يقول الفيلسوف هوبز.

والفضول، بمنطق علم النفس: «حافزٌ نفسيٌّ مدفوعٌ بالمَيْل إلى التَّعرُّف على خبراتٍ وتجاربَ ومعلوماتٍ جديدةٍ، والبحث عنها لاستكشافِها، ويعدُّ عنصرًا رئيسًا في عمليّة الإدراك، ومؤثِّرًا في صُنع القرارات، ومُحَفِّزًا للتعلُّم، ومُهمًّا للنموّ الصحيّ والعقليّ». 

ورغم هذا وذاك، فإن كل ما لدينا من علم ومعرفة كان أصله سؤالًا فضوليًّا. فسؤالٌ مثل: ما السبب وراء سقوط التفاحة؟! كان الباب الذي فتح لنيوتن التعرف إلى عالم الجاذبية وأسراره. وسببًا لظهور المواهب الكبرى؛ لذلك يقول ألبرت أينشتاين: “أنا لست موهوبًا، أنا فُضوليٌّ». كما كان سببًا لموت عظماء العصر من عباقرة العلوم والاختراع؛ أمثال دافنشي وبِيكون وغيرهم. وهذا عباس بن فرناس دفع حياته ثمنًا لفضوله وشغفه بالطيران، عندما قرر أن يصنع جناحين ويقفز من أعلى، وكلهم صاروا من شهداء الفضول الجميل!

ولأننا نعيش تحت وطأة عصر الإلهاءات والمُشتتات، وطُوفان المعلومات؛ فإن الفضول يصبح قويًّا وشائعًا عندما تكون أسئلة العصر غامضة عن العقل، والمعلومات ناقصة أو مفاجئة أو مفيدة، وتقع في المنتصف. وليس اشق على النفس من أن تكون قلقةً وحائرة وتشعر بحرمان الحصول على المعلومة الصحيحة. ودون شك، فهو: متعة وتجربة وإثارة واستجلاء وبحث وتعلُّم وتغيير، يجعل صاحبَه أكثر نموًا ونضجًا وقوة، مثلما هو -في بعض جوانبه-إلهاء وتشتيت وإهدار للوقت، يقود صاحبه نحو طرقٍ مظلمة ومثيرة للاكتئاب، يقتله وهو حي نتيجة الشعور بالإحباط أو التوتُّر والقلق وعدم الارتياح.

أحيانًا يقودنا الفضول إلى وجهات جديدة ومختلفة، قد لا نتوقعها، وهذا ما يجعل الشخصيات الفضولية أكثر نجاحًا من غيرهم، ليس بسبب ذكائهم أو قدراتهم الخاصة؛ إنما بسبب رغبتهم المُلِحة على فَهْم الأشياء من حولهم. فكل المخترعات البشرية أساسها الفضول، ولن نجد عالمًا مخترعًا مستكشفًا ليس لديه فضول معرفي (استثنائي)؛ لذلك يقول (أحمد زويل) الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء: إن الفضول هو الذي قاده إلى اكتشاف علم كيمياء (الفيمتو)، وهو أيضًا الذي قاده لاختراع الميكروسكوب رباعي الأبعاد الذي جعل بإمكاننا مشاهدة المادة بجميع أبعادها الزمكانية الأربعة.

إن إثارة الفضول في العقول يُشكل أساس العملية التعليمية؛ حيث التركيز على التعلُّم أكثر من المحتوى، وتعميق ثقافة الاستكشاف والبحث والتحقيق وطرح الأسئلة للوصول إلى الإجابات الغامضة. لذلك فأن فن التدريس هو (فن إيقاظ الفضول الواقعي لعقل الطالب)؛ بهدف تثوير فضول المعرفة، وكشف أسرارها، وإشباع وتلبية الرغبة لديه بهدف نجاح عملية التعلُّم. 

وقيل: إن الفضول المعرفي والعلمي هو المعلم الأول للإنسان. وتُعد الأسئلة من أفضل الأدوات لإثارةِ مستوياتٍ مرتفعةٍ من الفضول العلمي، حيث تسمح الأسئلةُ أيضًا بإرشاد الطلبة إلى الاستنتاجات التي يريدها، وتعويدهم على التفكير العميق، وتُعزز التفكير النقدي ومهارات حل المشكلات وحب التعلُّم؛ فلا يمكن للطالب أن يتعلم، أو حتى أن يتطوّر في مساره التعليمي، دون أن يسأل أو أن يكون فضوليًّا.  

وبالتجربة والبحث والمنطق؛ فإن تعليمنا يفتقد إلى الفضول المعرفي والعلمي، وإلى بث نور المعرفة في عقل الطلبة، بسبب ضعف مهارات التدريسيين لفن إيقاظ الفضول لديهم؛ مما أدَّى إلى تدَنِّي إنجازات الطلبة العلمية، وتعميق شعورهم الدائم بالقلق الذهني، وفقدان المتعة لديهم بالتعامل مع المناهج الدراسية، بالاعتماد على مبدأ لذة التعليم؛ مما سبب في ضعف مواصلة البحث والاستكشاف والابتكار. 

لذلك قال توفيق الحكيم بأن: الوسيلة الأولى للترغيب في القراءة، هي استثارة الفضول الشخصي. من الآخر، البيئة العربية طاردة للفضول المعرفي والعلمي؛ لأن ثقافة الاستبداد حاضرة بقوة في العقل العربي؛ استبداد الدولة وأقفالها السياسية الحديدية، وقمع الأسرة للأبناء بعادات وتقاليد الماضي، وقطع ألسن الحوار. 

فلا تجد اليوم إلا أسئلة التفاهات وقمامات النميمة المريضة حاضرة بقوة في الحياة؛ فضول يطل من الرأس لمعرفة سر طلاق الفنانة الفُلانية، وتتبع خصوصيات الآخرين والتلصُّص عليهم.

اضف تعليق