عندما ننظر للشوارع والأسواق والأحياء لا نجد فيها مكانا للتربية كتنمية الذوق في الحديث او العناية بالبيئة وغيرها، مع ان الجميع ناجحون في الدراسة وصولا للحرم الجامعي الذي شرعت أبوابه لغير النابهين أيضا، ما أوهمهم أنهم عارفون بالأشياء، والحقيقة ليست كذلك بنسبة تقرب من التسعين، وقيل ان وهم المعرفة أخطر من الجهل...
أضحكتني فضة المعداوي التي حدثتكم عنها في مقال سابق، وأقصد بها (قيادتي العامة)، أي زوجتي التي لا يُعصى لها أمر، ولا يمرر عليها ( قرش قلب) كما يقول مثلنا، اذ تقلّب الوجوه المختلفة لأدق التفاصيل، وتعطيها من المعاني ما لا يخطر على بال، ولكوني من الذين لا يعيرون الجزئيات اهتماما، ومنشغل بما هو عام، لذلك لا أملك اجابة دقيقة لتلك الأسئلة (الناعمة)، فتربكني قلة حيلتي، ولا يسعني مواجهة تلك المواقف الا باللف والدوران، او ابتسامة خجولة كثيرا ما تعمق الشكوك، او تفضح ضعف اجابتي، وعدم صحة قولي.
حدثتني هذه المرة وهي ترقب التظاهرات الضخمة التي نظمها المحاضرون المجانيون، وتفننت الفضائيات في نقلها، ووضعتها في صدارة نشراتها الاخبارية، وهي جديرة بالاهتمام الاعلامي حقا، بقولها: اذا كان لدينا هذا العدد الكبير من المحاضرين وأضعافهم من المعينين على ملاك وزارة التربية، فلماذا أبناؤنا لا يفهمون؟)، وأردفت سؤالها الساخر بعبارة: حتى ان مقارنة بسيطة بين مستوى أطفالنا العلمي والثقافي بأطفال دول عربية ممن نشاهدهم في برامج التلفزيون، يتضح لنا حجم الفارق المهول بين الأثنين، بما يشعرك ان أطفالنا لم يتلقوا شيئا ذي قيمة من المدرسة.
لفضة المعداوي تعليقات حادة، لا أستطيع ايرادها في هذا المقام، لكي لا تعد نيلا من هذه المؤسسة التي نعقد عليها الآمال، بوصفها مفتاحا للتنمية، وبوابة الدخول الآمن للمستقبل، وليس في تعليقات فضة تجن اطلاقا، فهي تذكر حقائق غالبا ما نتغاضى عنها، لكنها لم تعد بخافية على أحد، وبسبب اعتيادها لم يعد المعنيون بالتربية والتعليم يستحون منها.
حشود من المعلمين والمدرسين يعملون في التربية والتعليم، لكن عندما ننظر للشوارع والأسواق والأحياء لا نجد فيها مكانا للتربية كتنمية الذوق في الحديث او العناية بالبيئة او انتقاء الملابس او في طريقة المسير وغيرها من المظاهر السلبية التي لا تعد ولا تحصى، مع ان الجميع ناجحون في الدراسة وصولا للحرم الجامعي الذي شرعت أبوابه لغير النابهين أيضا، ما أوهمهم أنهم عارفون بالأشياء، والحقيقة ليست كذلك بنسبة تقرب من التسعين، وقيل ان (وهم المعرفة أخطر من الجهل).
وبصرف النظر عن افرازات الأداء المتراجع لمؤسستنا التعليمية والتربوية التي أُهدر فيها الطائل من الأموال، والحصيلة ان الذين يجيدون التحدث باللغة الانكليزية على سبيل المثال أقل من أصابع اليد الواحدة من خريجي الاعدادية لكل مدرسة وربما لا يوجد أحد، او لم نتمكن حتى من جعل الطالب يهتم بنظافة مكان جلوسه، فترى النفايات أسفل مقعده وعلى حافات النوافذ وممرات المدرسة وساحتها، ما دعا بعض الأسر الى القاء اللوم على المدرسة بتعلم أبنائهم ألفاظا نابية وسلوكيات غير مقبولة لم تعهدها فيهم من قبل، فأين هي التربية؟
ومع ذلك نأمل بهذه المؤسسة مراجعة مسيرتها، واستذكار تاريخها المشرق، فلا يليق بالمخلصين ان تتشكل صورة سلبية عن مؤسستهم التي أفنوا أعمارهم فيها، كما نظم صوتنا الى الهادر من أصوات المحاضرين المجانيين للاستجابة لمطالبهم بتثبيتهم على الملاك الدائم، فالواقع يشير الى حاجة مدارسنا الى خدماتهم، واذا لم يكن الأمر كذلك فلِمَ قبلتم هذه الاعداد في كليات التربية، وما هو دور وزارة التخطيط بهذا الشأن؟
أظن ان من المخجل على الحكومات المتعاقبة ان يُلقي المحاضرون دروسا مجانية في مؤسسة عامة مع انهم أحوج ما يكونون لأي مبلغ مالي لسد احتياجاتهم الشبابية، وهل المسؤولون والسياسيون مستعدون لأداء خدمة عامة بالمجان؟، انهم يتقاضون رواتب ضخمة، ومع ذلك لم نخلص من طمع الفاسدين فيهم . ان ملف المحاضرين المجانيين شائك، ويتضخم سنة بعد أخرى، ما ينذر بعواقب وخيمة اذا لم يُدار بحنكة، هذا ما قالته فضة المعداوي وأكتفي.
اضف تعليق