q
كلما ظهرت حالة جديدة من العنف المدرسي، يبدأ مسلسل تبادل الاتهامات في دوامة مفرغة بين الطالب وبين المعلم او المدرس، بل نكون امام ساحة مواجهة تقف في جبهة منها؛ المدرسة لتحمي الكادر التدريسي وتدافع عنه، فيما تقف الأسرة في الجبهة المقابلة لتدافع عن الطالب، والاثنين يدّعون الحق لانفسهم...

كلما ظهرت حالة جديدة من العنف المدرسي، يبدأ مسلسل تبادل الاتهامات في دوامة مفرغة بين الطالب وبين المعلم او المدرس، بل نكون امام ساحة مواجهة تقف في جبهة منها؛ المدرسة لتحمي الكادر التدريسي وتدافع عنه، فيما تقف الأسرة في الجبهة المقابلة لتدافع عن الطالب، والاثنين يدّعون الحق لانفسهم، وانهم يتعرضون للظلم وانتهاك الحقوق، وبعد شدّ وجذب لايام معينة، ينتهي كل شيء وتغيب المشكلة عن واجهة الاحداث –إعلامياً- فيما تبقى آثار المعركة في النفوس، فالعنف المدرسي ربما يمكن وصفه بأنه أخطر أنواع العنف الذي واجهه الانسان من حيث آثاره النفسية الواسعة، فالكلمات الجارحة، واحياناً؛ الضرب باليد والعصا وممارسات عنيفة اخرى، تشعر الطالب بالهوان والذل، بالمقابل فان الاستخفاف بالمدرسة والمعلم، واحياناً تعرض الاخير لاعتداءات بالضرب أو التأنيب القاسي، يسلب منه الشعور بقيمة عمله و أهمية دوره في التربية والتعليم.

هنالك اعتقاد سائد لدى الكثير بان المدرسة تقع على عاتقها تربية الطالب لاسيما في المرحلة المرحلة الابتدائية، والى حدٍ ما في المرحلة الاعدادية، ويسوقون لذلك أدلة من فترات تاريخية مر بها المجتمع العراقي بشكل عام، والمؤسسة التعليمية بشكل خاص، حيث كان للمعلم مكانته وهيبته ودوره الفاعل في تخريج جيل مهذب ومتعلم، يجمع بين العلم والاخلاق، بيد أن هذا الاعتقاد ينقصه نظرة اخرى على الحالة الثقافية السائدة في مجتمع ذاك الزمان، وطبيعة المتبنيات الفكرية والعقدية لدى الأسرة، فكل طالب يدخل المدرسة، يحمل معه طابع خاص من أسرته؛ سواءً تربوياً ونفسياً وثقافياً، الى جانب المستوى الاقتصادي.

وفي حلقة نقاشية حول "الاخلاق ودوره في التحولات الاجتماعية" استذكرت للاخوة المجتمعين، كيف ان معلماً في مرحلة الابتدائية كان يمارس دوراً تربوياً باهراً الى جانب دوره التعليمي، فكان يدعونا للجلوس والانتظار قليلاً قبل هبّة انتهاء الدوام على وقع رنّة الجرس، وذلك لقراءة سورة الفاتحة بشكل جماعي وبصوت عالٍ تبركاً بها، او ربما بهدف الحفظ من الملمّات، فهل كان هذا العمل من ذلك المعلم –رحمه الله- موصى به من مديرية التربية في فترة سبعينات القرن الماضي؟! أم أن المجتمع آنذاك كان يحتفظ بنسبة لا بأس بها بالاخلاق والآداب والالتزام بالقيم الدينية.

ولاسباب لسنا بوارد الخوض فيها، شهدت تلك الالتزامات بالقيم والآداب تراجعاً ملحوظاً جعل المدرسة والمعلم يواجهون سلوكيات وتصرفات غريبة من التلاميذ الصغار، مما اضطرهم لمواجهة الحالة الطارئة بالعنف، وهو أسرع ردود الفعل، مع اعتقاد البعض بانه الأكثر تأثيراً، بغض النظر عن آثاره المستقبلية، وفي مقابل هذا العنف نشهد رد فعل طبيعي من الطالب ومن يقف خلفه من أسرة او عشيرة.

ولذا نجد في كثير من الاحيان، حالات التعنيف في المدارس تخلو من دوافع تأديبية او تربوية، لان المعلم يجد نفسه في موقف الدفاع عن نفسه وشخصيته امام موجة عارمة من السلوك الشاذ المشجع للطالب على فعل كل شيء دون خوف او وجل، بينما التعنيف في سالف الزمان كان بهدف التذكير بالعودة الى الاخلاق والآداب الأسرية وعدم التخلّي عنها بزلّة لسان او انفعالات معينة داخل المدرسة، وربما يكون هذا مصداق وصف البعض بأن "كاد المعلم او يكون رسولا"، ثم يجب ان نتذكر أن المعلم والمدرس ايضاً؛ هما نتاج الأسرة بما تحمل من افكار وثقافات، كما انهما كانا يوماً على المقعد الدراسي.

ان تسليط الضوء على المشاحنات والصراعات داخل المدرسة بين المعلم والطالب، او بين المعلم وبين الادارة او مديرية التربية والجهات المعنية، يعني استمرار الدوران في حلقة مفرغة ما لم يتم طرق أبواب البيوت والعوائل واستجلاء المناهج التربوية لديها للبحث عن سبب ظهور هذا السلوك لدى هذا الطالب او ذاك، كونها الحلقة الأقوى في الدورة التربوية في حياة الانسان الى جانب المؤسسات الثقافية غير الحكومية، والجهات الحكومية والمنهج المعتمد في سياسة الدولة.

ونظرة خاطفة على الثقافة الاجتماعية السائدة في العراق –مثلاً- في خسمينيات وستينات القرن الماضي، تؤكد لنا مدى تأثير القيم والآداب المتجذرة على نفوس التلاميذ آنذاك، علماً ان شريحة واسعة من أولياء الأمور لم يكونوا من المتعلمين او خريجي الجامعات كما هو اليوم، بل كانوا أمييين، بيد ان الحرص والاهتمام البالغ بأمر التربية هو الذي جعل العراق يحظى بوجوه نيرة وأسماء لامعة من الشخصيات العلمية والادبية والثقافية، حتى بات الكثير منّا يحنّ الى ذلك الزمن الجميل رغم بدائيته وبساطة عيشه.

ومن اجل إعادة روح المسؤولية الى العوائل والأسر، يجدر بادارات المدارس إقامة اجتماعات دورية مستمرة لأولياء الأمور تبحث فيها، ليس فقط الهموم التعليمية، وانما التربوية ايضاً، فاذا عرف أولياء الأمور ان دعوتهم الى المدرسة هي لإلقاء اللوم عليهم بعدم متابعة ابنائهم وحثّهم على أداء الفروض المدرسية، مما يثقل كاهل المعلم او المدرس! فما الذي يجبره للحضور وسماع ما ليس في مصلحته ومصلحة ابنه، بينما الخطاب المتكامل المتضمن للتربية والسلوك والمستوى الدراسي هو الذي يشجع أولياء الأمور للبحث عن أفضل السبل لحماية ابنائهم ثقافياً والاهتمام بهم تربوياً لتكون المدرسة والمعلم المرحلة المكملة للمسيرة التربوية والتعليمية.

اضف تعليق