التربية والتعليم تلعب دورا كبيرا في بناء الشخصية الوطنية وتكريس الهوية الحضارية من خلال دورهما في عملية التنشئة الاجتماعية والثقافية وتكريس قيم التسامح والمصالحة الوطنية،وهما يمثلان الركيزة الأساسية في خلق القوى العاملة المدربة في مختلف الاختصاصات لتلبية احتياجات التنمية الشاملة وسوق العمالة...
أطرح مجددا أمام الحكومة الجديدة والبرلمان: المرتكزات الأساسية لإصلاح منظومة التربية والتعليم في العراق، لعل من المسلم به القول إن عملية التربية والتعليم تعد ركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وللتقدم والنهضة الحضارية ومجاراة للعصر، حيث أن المواطن المتعلم والمؤهل والمتربي هو ثروة حقيقية لأي مجتمع من المجتمعات، ومن هنا تعكف دول العالم على الاستثمار في العنصر البشري من خلال التعليم والتدريب والرعاية المختلفة،وذلك لقناعات مفادها إن الإنفاق المالي الكبير على قطاعي التربية والتعليم هو ليست من باب الاستهلاك بل هو من باب الاستثمار ذو العوائد طويلة الأمد،والذي تأتي فوائده أضعاف ما ينفق على هذه القطاعات ولسنين طوال ولأجيال متعاقبة.
فالتربية والتعليم تلعب دورا كبيرا في بناء الشخصية الوطنية وتكريس الهوية الحضارية من خلال دورهما في عملية التنشئة الاجتماعية والثقافية وتكريس قيم التسامح والمصالحة الوطنية،وهما يمثلان الركيزة الأساسية في خلق القوى العاملة المدربة في مختلف الاختصاصات لتلبية احتياجات التنمية الشاملة وسوق العمالة،ومن خلالهما أيضا يتم خلق أجيال قادرة على التواصل مع العالم والتعامل مع مستجدياته في ميادين التقدم الاقتصادي والاجتماعي والتقني لمواكبة ظروف العصر،حيث نحتاج فيه إلى إنسان يمتلك الخبرات والأفكار والأساليب والآليات الجديدة والمستجدة ،أي نحتاج إلى إنسان يتصف بالقدرة على الإبداع والابتكار والبصيرة النافذة،ومن هنا تأتي أهمية دور نظام التربية والتعليم في تأهيل هذا الإنسان في ظل تأثر هذا النظام بالعديد من التحديات مثل ثورة المعلومات والاتصالات،وثورة العلم والتكنولوجيا،والتنمية الشاملة والمستديمة،والشركات المتعددة الجنسيات والعولمة،وهذه التحديات تؤثر في أساليب عمل المؤسسات التعليمية كما تؤثر في أهدافها ومناهجها وكادرها التدريسي وطبيعة إعداده وفي تحديد طرائق التدريس وطرائق عمل هذه المؤسسات وأدارتها بصورة عامة.
أن إصلاح حقيقي في مجال التربية والتعليم لا يمكن أن يحقق الأهداف المرجوة منه إلا إذا جاء كجزء من عملية إصلاح شاملة تشمل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية،وخاصة في ظل التداخل والتأثير المتبادل بين هذه المجالات،وحيث أنجز العراق الخطوة الأولى المتمثلة في التغير السياسي صوب الديمقراطية السياسية اللازمة لانتعاش الديمقراطية في قطاع التربية والتعليم،إلا أنه اخل في ترك أي اثر ايجابي في هذا القطاع في الحقبة ما بعد 2003 والى اليوم،حيث ترك هذا القطاع فريسة للمحاصصات السياسية والطائفية وفتح باب الاجتهاد السيئ على مصراعيه في هذا المجال مما حوله إلى ميدان مصدر للتخلف الفكري والتربوي ومكان امن للفساد والتزوير والاستحواذ،وهو استمرار لما حصل من تدهور في العملية التربوية والتعليمية في زمن النظام السابق،بل وفي بعض من وجهوها أشرس مما وقع آنذاك.
أن التوجه المعلن لرئيس الوزراء الجديد في تشكيل حكومة من التكنوقراط وذوي الكفاءات العلمية والمهنية ومن الكوادر التي يعهد لها في الخبرة والنزاهة،قد يفتح المجال لذهنية الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي بالانطلاق،وعلى افتراض حسن النوايا ووضع مصلحة العراق وتطوره أولا، بعيدا عن المحاصصات والتوافقات الطائفية والسياسية والاثنية سيئة الصيت، فأن البرلمان والحكومة القادمة معنية بما يأتي:
ـ التفكير الجدي والمسئول بحماية الطفولة المبكرة من خلال اعتبار رياض الأطفال جزء لا يتجزأ من النظام التعليمي والتربوي أسوة بالتعليم الابتدائي،ولعل ذلك ينسجم مع الحقائق العلمية التي تؤكد أن 80% من عقل الإنسان يتكون في السنوات الخمس الأولى،و10% يتكون حتى العام السادس،بينما يتكون أل 10% الباقية من خلال التجارب والمواقف والخبرات التي يمر بها الإنسان في حياته،فأن ذلك يعني ضرورة التركيز على الحضانة ورياض الأطفال بتوفير كافة وسائل الرعاية الصحية الجسمية والنفسية والغذائية والرياضية وغيرها،ومن هنا تأتي أهمية دمج هذه المرحلة مع النظام التربوي الشامل وعدم تركها للجهود العفوية المبعثرة من قبل جهات غير تربوية حزبية وغير حزبية،وان تخضع هذه المرحلة للتخطيط والدراسة أسوة ببقية المراحل.
ـ الشروع بدراسة وإقرار التعليم الإلزامي إلى سن 16 سنة،أي اعتبار المرحلة الابتدائية والمتوسطة مرحلة واحدة بحلقات داخلية،لضمان النمو التربوي والنفسي السليم تحت سقف الإلزام وحماية الطفولة في هذا السن من الانحراف والتسيب والتسول،وتتحمل الدولة الغنية كالعراق كلفة الدراسة جملة وتفصيلا.
ـ رفع مخصصات قطاع التربية والتعليم من الميزانية العامة ومن الدخل القومي،وبما ينسجم مع الحاجة الماسة لهذا القطاع في إعادة بناء بنيته التحتية ومع حجم الخطط التي توضع لانتشاله من الدمار الشامل الذي حل به قبل وبعد سقوط النظام،وان يجري تخصيص الميزانية في ضوء دراسات مسحية شاملة لكلفة المؤسسات التربوية والتعليمية بكل عناصرها المكونة،من أبنية ومناهج وكادر تدريسي وتربوي وأداري وكلفة الدارسين،وبالإمكان الاستعانة هنا بأخصائي الاقتصاد التربوي لدراسة حسابات الكلفة التربوية للوحدات التربوية والمؤسسات وعموم النظام التعليمي ،بعيدا عن التخمين والعشوائية في رصد المبالغ المالية.
ـ الشروع الجدي بحملات محو الأمية ومنحها صفة المشروع الوطني الشامل بعيدا عن حصر هذه الحملات بأحزاب تنفرد بها لتحويلها إلى مشروعات للكسب السياسي الرخيص كما جرى في حملات " التبعيث لمحو الأمية "،والاستعانة بخبرات الشعوب ودراستها في القضاء على الأمية ببعديها الأبجدي والحضاري.
ـ بذل الجهود الكافية لإعادة النظر بمختلف مراحل التعليم وتوصيفها لرفع مستوياتها بما يعادل المستويات الدولية،عبر الاستفادة والاستعانة بخبراء التربية المقارنة والتخطيط التربوي من العراقيين في الداخل والخارج لنقل تجارب بناء النظم التعليمية في العالم المتطور ومطاوعتها لظروف العراق،لضمان توفير كوادر بشرية تتلاءم مع متطلبات ظروف العصر،دون الإهدار بمستوى التعليم الذي يؤدي إلى تخريج أعداد كبيرة بمستويات تعليمية وتربوية متدنية لا تطابق المواصفات الدولية.
ـ نشر شبكات المكتبات المدرسية ومكتبات المحافظات في أنحاء العراق وإحياء ما دمر منها وحرق بعد سقوط النظام،وتنظيفها من فكر الدكتاتورية والتعصب الديني والطائفي،وإشاعة ثقافة استعارة الكتاب وتداوله على نطاق واسع لتشجيع الدارسين على الحصول على المعارف من مصادرها أينما وجدت،وكذلك إحياء الأرشيفات المدمرة والمحروقة بعد تمحيصها وتوصيفها وتصنيفها لإعادة الاستفادة منها.
ـ العناية بالمستوى التربوي والتعليمي للكادر التدريسي من مختلف المستويات من خلال دورات التأهيل التربوي والمهني،ليكونوا على صلة بما يستحدث في ميادين تخصصاتهم وطرائق التدريس المستجدة في هذا المجال،وتسبق في ذلك خطوة التخلص من كافة مزوري الشهادات ومن الدخلاء على هذا القطاع.
ـ إعادة رسم التخصصات في الكليات والجامعات والمعاهد المختلفة في ضوء حاجة البلد المستقبلية لمختلف التخصصات والاحتياجات وربطها بسوق العمالة من خلال التنسيق بين مختلف القطاعات وقطاع التربية والتعليم،ولكي لا ننوء تحت ثقل ظاهرة بطالة الخريجين،مع رفع ميزانية التعليم العالي والبحث العلمي بما ينسجم مع مكانة هذه المؤسسات في المجتمع.
ـ ضرورة بناء المناهج الدراسية على أسس علمية تطابق المواصفات الدولية وإعادة إحياء الدوائر المتخصصة في تقويم وتطوير وبناء المناهج الدراسية في وزارتي التربية والتعليم العالي، والاستعانة بخبرات ذات الدوائر المتخصصة في الدول المرجعية.
ـ أعادة النظر في تسمية المؤسسات التربوية والتعليمية من مدارس ومعاهد وجامعات ومراكز أبحاث،وإطلاق المسميات التي تعبر عن وحدة شعبنا وانتماءه التاريخي لهذه الأرض ولثقافة العراق المتسامح والمتنوع الأعراق والأديان،بعيدا عن المسميات التي تكرس مزاج الانحياز من طائفية ومذهبية وشتى ألوان الصراعات الاثنية والدينية ،وتناط هذه المهمة حصرا بلجان التربية والتعليم في البرلمان لتقرير الاتجاهات العامة بهذا الخصوص.
ـ العناية الكافية والموضوعية بعيدا عن روح التعصب بدراسة الأديان السماوية،وخاصة أديان المكون العراقي وتقديمها بصورة موضوعية دون تحيز أو تبني وجهات نظر مسبقة تفسد الوعي الديني وأهميته للمواطن وتدفعه نحو الانحياز لهذا الدين أو ذاك،مما يفسد حوار الأديان والتسامح عبر إشاعة التخندق والتعصب الديني والمذهبي.
ـ إدخال دراسة الكمبيوتر كدرس ضمن الخطة الدراسية في مراحل التعليم المختلفة وبمستويات تناسب الدارسين وتعميم شبكة الانترنيت مما يفتح آفاقا جديدة للطاقة التربوية المتجددة من خلال الاتصال والتدفق ألمعلوماتي الهائل،وأن يكون المعلم سباقا لإيجاد حالة من الموازنة بين وسائل الاتصال والإعلام بصفة عامة وبين المعلومات المدرسية عبر انتقاء المادة التربوية الصالحة،ولا ندع الطالب أن يكون ضحية للتدفق ألمعلوماتي العشوائي كيفما يشاء.
ـ الاستفادة من التلفزيون التربوي والفيديو كوسيلة تعليمية وهي جزء حيوي من الوسائل السمعية والبصرية المعينة التي تسهم في تشكيل آفاقا رحبة وجديدة وتضاعف من الروابط بين التعليم والاتصال وتسهل عملية الاستفادة من التجارب التربوية في مختلف التخصصات ومن مختلف البلدان،كالوقوف "على سبيل المثال لا الحصر" على ما يستجد من طرائق تدريس أو تجارب مختبريه في مختلف العلوم.
ـ الاهتمام الجدي بالنشاطات أللاصفية المختلفة في ميادين الفنون والآداب والرياضة،مثل الرسم،والنحت،والسباحة والرياضة بمختلف صنوفها،والموسيقى،والشعر ،والنثر ،والقصة والمسرح وغيرها،وكذلك تنمية المواهب ذات الطابع المهني مثل الزراعة،والنجارة،والصناعة،والكهرباء وغيرها وجميعها تسهم في الكشف عن المواهب والاستعدادات مبكرا وتسهل عملية توظيفها بشكل مثمر.
ـ نشر شبكة التغذية المدرسية لتقديم الوجبات الغذائية مجانا في إطار الدوام المدرسي للتخفيف عن كاهل الأسر الفقيرة ولتحسين ظروف التغذية لديهم تحت إشراف الصحة المدرسية،وكذلك العمل بنظام المعونات الدورية للمحتاجين من ملابس ومستلزمات مدرسية وحياتية عامة لتخفيف الفرو قات المختلفة بين التلاميذ ذوي المنحدرات الاقتصادية المتباينة،وكذلك تهيئة وسائل النقل للطلبة الذين يسكنون بعيدا عن أمكنة دراستهم لضمان حضورهم لليوم المدرسي والتخفيف عن ذويهم كلفة أجور النقل.
ـ العمل بتعليم اللغات الأجنبية ابتداء من الصفوف الأولى للمرحلة الابتدائية نظرا للمرونة العقلية التي يتمتع بها التلاميذ في هذه المرحلة لتقبل اللغة واستيعابها،وتحسين طرائق التدريس فيها وتعزيز جانب الممارسة والاتصال فيها عبر سفرات دورية منتظمة للدول من ذات اللغة المتعلمة.
ـ الرعاية الشاملة للمعوقين الذين وقعوا ضحايا للحروب والعمليات الانتحارية ومختلف مظاهر العنف وزجهم في النظام التعليمي عبر تصنيفهم طبقا لأعاقتهم الجسمية،والعقلية والنفسية،ووضعهم في صفوف ملائمة لأعاقتهم وتقديم الخدمات التربوية والتعليمية والصحية وإيجاد المهن الملائمة لهم على طريق دمجهم الكامل في المجتمع.
ـ تعزيز العمل المشترك بين البيت والمدرسة عبر لقاءات دورية منتظمة لبحث مشكلات التلاميذ والمساهمة في إيجاد الحلول لها.ويتزامن ذلك في بناء شبكة واسعة من الأخصائيين الاجتماعين والمرشدين التربويين والنفسيين في جميع المدارس العراقية لغرض الإسهام الفعال في حل المشكلات المختلفة ذات الطابع المتطابق مع الاختصاصات المذكورة أعلاه.
ـ تشجيع الطلبة على جهودهم وإبداعاتهم وتفوقهم الدراسي خلال السنة الدراسية وتقديم الهدايا ومختلف أشكال الدعم المادي والمعنوي لهم،وكذلك العناية بالموهوبين من ذوي القدرات والكفاءات الخاصة النادرة باعتبارهم ثروة وطنية ويمكن أن تكون أعمالهم مقدمة لانجازات أكثر عمقا وتأثيرا في مختلف المجالات العلمية والأدبية والفنية والتكنولوجية وغيرها.
أن قضية التربية والتعليم هي جزء من مفهوم الأمن الوطني للبلد،وأن أزمة هذا القطاع هي أزمة وطنية وأزمة نظام سياسي قبل كل شيء،ونظرا لكثرة المشاكل التي يعاني منها التعليم في العراق جراء ما وقع على هذا القطاع من سياسات عبثية في عهود مختلفة والى وقتنا هذا،فأن عدم الشروع بالإصلاح الجذري لهذه المؤسسة الهامة والتمادي في تدمير هذا القطاع لأغراض نفعية وحزبية وفئوية ضيقة،فأن مشكلاته سوف تتفاقم لدرجة يصعب معها الإصلاح،وتصبح المؤسسات حاضنة للتشرذم ألقيمي ومهددة للأمن القومي الشامل للمجتمع،ومكانا مواتيا لأرباع وأنصاف المتعلمين يشكلون عبئا على أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة.فهل يتحرك البرلمان القادم ليتحمل مسئوليته الكاملة لإصلاح التعليم ،انه تحدي كبير يواجه المسئولين العراقيين واختبارا لصدق نواياهم اتجاه قضايا شعبنا المصيرية.
اضف تعليق