هل يمكن لنا أن نتخيل صورة نموذجية للتعليم في بلادنا، وأقصد هنا كل من يهمه أمر هذا القطاع الحيوي الذي يشكل الشريان العلمي الأهمّ لجسد البلاد، ولنا أن نتصوّر ما الذي سيحدث لهذا الجسد، لو أن هذا الشريان، حدث فيه خلل ما، كتلك التي تصيب الشريان التاجي أو الصمامات المتضخمة في القلب البشري.
إن أهمية التعليم بالنسبة لأي بلد تضاهي أهمية القلب بالنسبة للإنسان، فالتعليم هو الذي يساعد الناس لكي يبقوا على قيد الحياة، في رفاه وصحة وبحبوحة، والقلب المعافى هو الذي يجعل من صحة الإنسان مدعاة للثقة والأمان وإبداء النشاطات المختلفة، من دون خشية أو تردد أو وجل، أما إذا كان القلبُ عليلا، فيا لمأساة الإنسان، ويا لفداحة الخسائر التي تلحق بالبلاد.
في السنوات التي مضت، كان التعليم والعملية التربوية برمتها في العراق تعاني من أخطاء كثيرة، يتحمّل مسؤوليتها الجميع، ونعني بالجميع، الحكومة، الوزارة المعنية، الكادر التعليمي التدريسي، والطلاب من الجنسين، وقد كان لتلك الأخطاء تأثيرها الكبير على هذا القطاع، ما تسبب في تدني مستويات التعليم والتربية، في هذا البلد العريق، علما أن الأخطاء ليست من النوع المستعصي، بل هي سهلة الحل والتصحيح، وهي الخطوة التي نبدأ بها في عامنا الدراسي الجديد.
وكما هو الحال في أي مرفق أو مجال، فإن المعالجات بحاجة الى تنظيم فكري تنفيذي، فالأمر يتطلب إرادة في التخطيط التخصصي وفي التنفيذ السليم، مع حتمية القضاء على النشاط الإداري البيروقراطي، فهو يعمل على إعاقة التصحيح بقوة، بسبب تمسك منظومة العمل البيروقراطي بنهج منحرف، يجلب لمن يتبنّاه المنافع والأموال، لانتشار حالات الفساد المالي والإداري، التي غالبا ما تجعل من المشاريع التربوية، أما صفقات وهمية، أو تبقى على النصف من حيث التشييد، أو أنها تنفَّذ بطرق رديئة لا تمتلك معايير العمران الدولية، لكي يمكن للقائمين على هذا المشروع أو ذاك أن يستحوذوا على حصة الأسد في مشاريع فساد لا مثيل لها.
أخطر ما تعرض له التعليم
وإذا انتقلنا من العنصر المادي البنائي، الى طرائق التعليم والتدريس، فإننا سوف نصاب بصدمة، ولعل اخطر ما تتعرض له العملية التربوية، تكمن في تلك الأساليب النمطية في التعليم، حيث تعجز عن تخريج الطلبة المبدعين المبتكرين، بسبب آلية التعليم التي تراوح في مكانها منذ عشرات السنين، فالأمر لا يتعلق بالجانب المادي وحده، ولا ينحصر في المنشآت والمختبرات والبنايات، وإنما يعاني نظامنا التعليمي من علل فكرية تعليمية، تتمثل بمستوى الكادر المتندني حيث تسلل الى هذا القطاع الحيوي من لا يستحق ذلك قط.
لقد اطلعنا مصادفة على ما يعلنه بعض المتخصصين من الخبراء والكتاب وهم يصفون وضع التعليم بالعراق بعد متابعة دقيقة، ولنقرأ شيئا من ذلك لأحد الكتاب الذي يقول: (لقد تعودت الأجيال الحديثة من الطلاب والتلاميذ في العراق كثيراً على أن يفكر لها آخرون في كل ما يتعلق بحياتها ومستقبلها وشؤونها، وما عليها إلا السمع والطاعة، وقد شكلت نفسية التلقي عقلية غير قادرة على النقاش والإقناع لدى الطلبة، ففي التربية والتعليم، وفي جوانب الحياة المختلفة عموماً كثيراً ما يكون هناك مرسل ومتلق، وغياب واضح للتفاعل والشورى، والحوار المتكافئ، وفشلت تلك التربية في تحقيق احد الأهداف الرئيسية في التعليم، وهو إيجاد الملكات النقدية والفكر المستقل، وقد ربط بعض الباحثين هذا الأسلوب بظاهرة السلطوية، ومنها البعد الإداري في معالجة مشاكل التربية والتعليم في العراق).
كأنه بهذا التوصيف الدقيق المستمَد من واقع التعليم، ينبّهنا على أمور لم نرَها بأعيننا أو عقولنا، مع أن هذه الأمور التي ذكرها موجودة بشكل فعلي في واقعنا التعليمي، فمن المشاكل التي نجدها حاضرة في التربية والتعليم أيضا، ضعف الانسجام بين الكادر التربوي التعليمي نفسه، بمعنى ليس المدارس والبنايات والمنشآت هي سبب سوء التعليم فقط، هي احد الأسباب نعم، ولكن هناك أسباب جوهرية ليست مادية يجب معالجتها، منها على سبيل المثال العلاقة بين المشرف التربوي والمعلم أو التدريسي، حيث تسود بينهما علاقة يعتريها عدم التوافق والانسجام غالبا، خاصة ما يتعلق بفرض السلطة على الآخر، يقول أحد المعنيين بقطاع التعليم: إن (الإشراف التربوي كثيراً ما يمارس كعملية سلطوية مزاجية تفتيشية تهدف الى تخويف المعلم وإحراجه، وإظهار نقاط ضعفه، ويشعر المشرفون بان المعلم غير متحمس لزيارتهم، ولا يثق بما يقدموه له من ملاحظات، وكأنَّ هناك حرباً باردة بين الطرفين!!).
صناعة بيئة تعليمية عرجاء
في الواقع مثل هذا التأشير الدقيق يثير القلق في رؤوسنا، فعندما لا يسود الانسجام بين الكادر التعليمي بعضه مع بعض، فإن ذلك سوف يؤثر بالسلب على الطلبة، ويصنع بيئة تعليمية عرجاء، لن يكون بمقدورها أن تخطو الى الأمام خطوة واحدة، هكذا تتضح لنا الكثير من إشكاليات العلاقة بين الكوادر التدريسية نفسها، وثمة أخطاء أخرى تتعلق بالمناهج وطرق التدريس وأهمية منح الطلاب الثقة اللازمة، لكي تتم عملية التدريس والاستيعاب التفاعل المتبادَل بين المعلم والطالب بطريقة فاعلة وعصرية ومفيدة للطرفين.
أما السلوك الطلابي، فنحن على معرفة بطبيعة المرحلة العمرية التي يمرون بها، ولا يمكن أن يكون عقل الطالب واتزانه مضاهيا لأستاذه، لذا فإن قضية السيطرة على السلوك الطلابي أمر في غاية التعقيد، خاصة أنهم مراهقون ويحتاجون الى دراية وخبرة في التعامل معهم بسبب العقلية المختلفة التي يحملونها، فالعقل يكتسب خبراته وتوازنه وحتى حكمته مع مرور الزمن، كذلك بالنسبة لطلبة الابتدائية الصغار ودخولهم عالم المدرسة الجديد، فإنهم حتما يرهبون هذا العالم، لذا نحتاج الى المعلم المدرس القادر على زرع الأمان والاستقرار في كيان الطالب، والقبول بالعالم الجديد من الطالب الذي لا يزال يعبر بشيء من القلق مرحلة الطفولة.
ولعله أمرا طبيعيا حين نقول أن الصف، أي صف تدريسي، بطلابه الثلاثين أو الأربعين أعلى أو أقل، يحتاج الى إدارة واعية تضبط الإيقاع التعليمي داخل الصف، وهذا يتطلب نوعا من القدرة على ذلك، وهي للأسف قدرة ذاتية، لم يكتسبها المعلم من الدورات والبعثات خارج البلاد، فهناك دورات تمنح الخبرة الكافية للمعلم في كيفية الإدارة الناجحة، ولكن نظرا لشحة هذه الدورات، وعدم اهتمام الجهات المعنية بهذا الجانب، فإن المعلم والكادر التدريسي كله، يضطر للاعتماد على خبراته البسيطة وشخصيته التي قد لا يتمكن من خلالها ضبط الصف، ومواصلة التعليم الصحيح أو المناسب أو المقبول في حدّه الأدنى.
اضف تعليق