يقف العالم اليوم على مشارف ركود جديد هو السادس منذ عام 1970. هذا الركود حادّ أكثر مما سبق لأنه ينطلق من حدثين كان لهما وقع هائل على اقتصادات العالم؛ جائحة كورونا، الحرب الروسية الأوكرانية. بفعل الجائحة، ضخّت المصارف المركزية حول العالم سيولة بتريليونات الدولارات سرعان ما تحوّلت إلى تضخّم...
يقف العالم اليوم على مشارف ركود جديد هو السادس منذ عام 1970. هذا الركود حادّ أكثر مما سبق لأنه ينطلق من حدثين كان لهما وقع هائل على اقتصادات العالم؛ جائحة كورونا، الحرب الروسية الأوكرانية. بفعل الجائحة، ضخّت المصارف المركزية حول العالم سيولة بتريليونات الدولارات سرعان ما تحوّلت إلى تضخّم تَسارَع وتَكثَّف بسبب تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية. الحدثان، خلقا هاجساً لم يكن العالم الرأسمالي يشكو منه سابقاً متصل بانقطاع سلاسل الإنتاج والتوريد. فقد تبيّن أن إنتاج السلع الأساسية وحصول البلدان على حاجتها منها، تضرّرت سريعاً، وهو ما انعكس سلباً على استراتيجيات الإنتاج والتوريد.
بنتيجة هذين الحدثين، ظهرت المؤشرات في تحوّل الاقتصاد العالمي نحو الركود. فالاقتصاد الأميركي، أي أكبر اقتصاد في العالم، يعاني اليوم مما يسمّيه «ركوداً تقنياً»، وهو عبارة عن فصلين متتاليين يسجّل فيهما الناتج المحلّي الإجمالي انكماشاً. كما أنّ منحنى العائد (yiel curve) على السندات الأميركية بدأ يظهر بشكل منعكس، أي ينخفض العائد على السندات الأطول خلافاً للسندات القصيرة الأجل التي يرتفع العائد عليها، وهذا أحد مؤشرات وقوف الاقتصاد الرأسمالي على أعتاب الركود. أما الاقتصادات الأوروبيّة، فهي أيضاً تعاني من انكماش، وحتى الصين تعاني من تراجع في معدلات النمو.
قد تُعزى هذه الأزمة، بشكل أساسي، إلى طبيعة النظام الرأسمالي التي تولّد دائماً أزمات تظهر على شكل ركود. هذا التفسير يروّج له العالم الرأسمالي ومؤسّساته مثل البنك الدولي الذي أصدر أخيراً دراسة عن حالات الركود في الاقتصاد العالمي منذ عام 1970. فمذاك، شهد العالم خمس أزمات ركود، لكن الملاحظ هو أن الفترات الزمنية بين تجدّد هذه الأزمات أصبحت قصيرة جداً، إذ لم يمرّ على آخر ركود شهده العالم أكثر من سنتين. وليس ذلك فقط، بل إن الركود الذي يسير نحوه الاقتصاد العالمي اليوم، ناتج بشكل أساسي من إجراءات مواجهة الركود السابق الذي سببته جائحة كورونا، إذ أدّت إلى ضخّ حجم هائل للأموال بهدف تحفيز الطلب ودعم العرض، ما أدّى إلى تضخّم في الأسعار تحفّز بعدّة عوامل، مثل تعطّل سلاسل الإنتاج والتوريد وانعكاسات الحرب الروسيّة الأوكرانيّة. عندها اتجهت الدّول، بقيادة الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى رفع أسعار الفائدة بشكل سريع على أمل لجم التضخّم. إلا أن هذه السياسات النقدية بدأت تظهر نتائجها على مستويات الإنتاج.
مؤشرات الركود الحالي جاءت في تقرير أعده البنك الدولي بعنوان: «هل أصبح الركود العالمي وشيكاً؟». استعمل البنك نموذجاً اقتصادياً واسع النطاق، شمل اقتصادات 81 دولة، وتوصل إلى ثلاث سيناريوهات على الشكل الآتي:
- في السيناريو الأول (الأساسي) يظهر أن التشدّد في رفع أسعار الفائدة، لن يكون كافياً لإعادة التضخم العالمي إلى معدل يتوافق مع أهداف المصارف المركزية في العامين المقبلين، ما قد يعزز من خطورة الاتجاه التصاعدي في توقعات التضخم.
- في السيناريو الثاني (الانخفاض الحاد)، يفلت الاقتصاد العالمي من الركود، إلا أنه يختبر تراجعاً عالمياً في حصّة الفرد كما حصل عام 2001 لا بل قد يكون أسوأ مما حصل في عامَي 1998 و2012. وفي هذا السيناريو، يتعافى النشاط الاقتصادي في عام 2024، بينما تتعمق أزمة التباطؤ في نمو التجارة العالمية.
- السيناريو الثالث هو الركود الاقتصادي العالمي الذي ينطوي على زيادة أكبر في توقعات التضخّم ما سيدفع المصارف المركزية إلى تشديد سياسة رفع الفوائد على مدار العام. لذا يتوقع انخفاضاً في معدّل نموّ الناتج المحلي العالمي بنسبة 1.9% عام 2023، وبنسبة 1% عام 2024، وتراجعاً في النمو العالمي للتجارة من 5.4% عام 2022 إلى 1.2%عام 2023.
في الواقع، تعدّ السيناريوهات الثلاثة متفائلة مقارنة مع تفاعل الاقتصاد العالمي في السنوات التي تلت حالات الركود السابقة. إنما هناك نتيجة لم يتطرق لها البنك الدولي تتعلق بهرمية وقوع الأعباء التي تخلفها الأزمات على شعوب الدول الفقيرة أولاً لأنها بلا حماية أصلاً وهي في العادة ضحيّة استجابة سياسات الدول المتقدّمة للأزمات، وفي داخل الاقتصادات المتقدّمة، تتحمّل الأجور العبء لأن الاستجابة يكون هدفها دائماً إنقاذ رؤوس الأموال.
اضف تعليق